 | تجديد كتاب العرنجيةأحمد الغامدي | مقالةتاريخ النشر: 2025/01/27 اقرأ للكاتب |
لم أزل منذ مدةً أتوقَّى الكلام في (العرنجية)، لأن الكلام فيها محتاجٌ إلى بسط القول، وفسحةٍ في العمر، لكثرة المتكلمين فيها والمتجادلين في أمرها، فلا يكفي فيها يسير القول وقليل البيان. وكنتُ لا أكاد أجد لذلك -ولا لغيره- فسحةً لاشتغالي ببعض ما كان يُذهب العمر ويمحق بركتَه، بارك في أعمارنا وأصلح أحوالنا. إلا أنِّي عزمتُ قبل مدة على أعيد النظر في الكتاب، وصرت أتحيَّن لذلك الفرص. وكنتُ لمَّا نشرتُه أول مرة، أردتُ الكلام فيه سهلًا واضحًا، متكلمًا فيه بكلام الصاحب لصاحبه، والأخ لإخوانه، تاركًا فضولَ القول، وتشقيقَ الكلام، وتمطيط الأبحاث الأكاديمية وجفوتها. فتراني أبسط القولَ مرةً وأختصره مرة، وأغلظ مرةً وألين مرة، وأقرع مرةً وأشفق مرة. وكان مما حملني على ذلك أني لم أرد بهذا الكتاب بحثًا أكاديميًّا، وإنما أردتُه كتابًا أحدِّث به عامة المتأدبين، وأهلَ العربية، والمترجمين منهم خاصةً.
ثم ردَّني عن هذه السبيل -على أنَّها أحب إليَّ- أنَّي لم آخذ فيها بكثرة التحرزات وإطالة التنبيهات، واستعمال ألفاظ الأكاديميين، فـقُوِّلت ما لم أقل، وحُمِّل بعض قولي ما لم يحتمل، فردَّ أقوامٌ على كلامٍ توهموا أن أردتُه، وغلا بعضُهم في أمر الردِّ على التعرنج حتى مالوا عن سبيل العلم، وأُدخلت في تخاصم وتنازع لا ناقة لي فيه ولا جمل.
وأكثر ما استشكله القوم موجودٌ جوابه في الكتاب بطبعته الأولى -إما منطوقًا وإما مفهومًا-، إلا أنه مبثوثٌ في تضاعيف الكتاب، منتثرٌ لا يأخذه إلا من أخذ الكتاب أخذًا واحدًا، ومن لم ينظر في كلِّ مسألةٍ في الكتاب منفردةً كأنما لم يتقدمها شيء، ولم يلحقها شيء.
فرأيتُ -لمَّا صار عندي في وقتي شيء من فسحة- أن أنقضَ الكتابَ وأبنيه بناءً جديدًا، وآخذ في ذلك بشيءٍ من سبيل الأكاديميين، من التوطئة بالتحرُّز، وذكر المنهج في الكلام، وبسط الحجة فيما كنت أجتزئ فيه بالقدر اليسير من البينات، واجتناب ما أظنه يشكل من العبارات والمسائل، وزيادة إيضاح المسائل وبيانها وإن توهمتها واضحةً، ونحو ذلك من الأمور. وإنما حدثتُكم بهذا الحديث لأنَّ رأيتُ بعض الإخوة -وإن كنتُ أحسب فيهم حسنَ القصد- قد غلوا في هذا الأمر حتى كادوا يجعلونه بابًا للموالاة وأمرًا موجبًا للسفه والغلظة على عامة الناس وأهل الفضل، فلعل قولي هذا يردُّهم عن بعض ما هم فيه. وما الحديث في (العرنجية) إلا حديث علم وتعليم، يلحقه ما يلحق سائر العلوم من الحاجة إلى التفقه فيه قبل الخوض فيه، وينبغي للمتكلم أن يريد به التعليم وإصلاح العربية، لا السفه على الناس. ومَثَل الكلام في العرنجية كمثل النحو -وسائر علوم العربية-، وقد كره بعض السلف تعلم النحو لما يورثه من البغي. وقد بوَّب الخطيب البغدادي بابًا في كتابه (اقتضاء العلم العمل)، سمَّاه: (مَنْ كَرِهَ تَعَلُّمَ النَّحْوِ لِمَا يُكْسِبُ مِنَ الْخُيَلَاءِ، وَالزَّهْوِ)، وهو لا يُريد بذلك حقيقةَ الذم، وإنما يذم أخذَ العلم بغير حقِّه، وطلبه للمفاخرة به والسفه على الناس، وترك العمل بما اقتضته معرفة العربية من مروءة وديانة. وكنتُ أشتدُّ في الكتاب -في طبعته الأولى- غضبةً في الـعـلـم على من يذبُّ عن العرنجية ويذمُّ التشبه بكلام الأوائل -تصريحًا أو تعريضًا- ويغضُّ من الكلام الفصيح ويرميه بما يرميه به ويتخذه هزوًا. ثم رأيتُ من جعلَ الكلام في (العرنجية) شدَّةً يسير بها في مجالس عامة الناس، فيستهزئ بهذا، ويغض من هذا، ويستعمل غليظَ القول وفاحشَه، والحديث حديث تعليم وإشفاق ولين وحسن قول، وهدايةٍ إلى كلام العرب، أما الغلظة والسفه -في غير موضعها- والبغي على الناس، فـضَرُّها أقرب من نفعها. وأحسبُ -والله أعلم- أنَّ هذا بيِّنٌ الكتاب لمن أخذه أخذًا واحدًا، وتفهمه، وهم غالب من قرأ الكتاب -فيما رأيتُ والحمدلله-. إلا أني -لهذا الأمر وشبهه- عنَّ لي سلوك سبيل الأكاديميين إذا أعدتُ كتابةَ الكتاب، والتخفف مما يبعث إلى الخصومات والتنازع، ولستُ أدري متى أفرغ منه، إلا أني عجلتُ بهذه الرسالة للأمر الذي ذكرتُ لك، وأسأل الله التيسير والإعانة والتمام. |
|