الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

حمزة أبو فارس الأستاذ والأخ والصديق

رمضان أبو غالية

مقالة

تاريخ النشر: 2025/01/30
اقرأ للكاتب
تعود معرفتي بالدكتور حمزة أبوفارس إلى أيام الدراسة بمدرسة عثمان القيزاني الإعدادية الثانوية في مدينة مسلاتة؛ تلك المدرسة التي كانت تمر بفترة ذهبية زاهرة، ومرحلة استثنائية بكل المعايير. كل ما فيها كان مميزاً؛ مديرها وأساتذتها وطلابها. كانت تعج بالمناشط المختلفة، وتشارك في المسابقات على مستوى البلديات، وعلى مستوى البلاد عموماً ، وتحصد الجوائز، ولها في التراتيب المتقدمة حظ وافر.

في ذلك العام العام الدراسي، 1978- 1979 ، وتحديدا في السنة الأولى من المرحلة الثانوية، بدأنا دراسة اللغة الفرنسية، وكان أستاذنا في هذه المادة الجديدة: الأستاذ حمزة أبوفارس.

شاب في بداية العقد الرابع من عمره ، طويل القامة ، يرتدي أحياناً البدلة الإفرنجية كاملة بربطة العنق، مع معطف أسود طويل أيام الشتاء الباردة، وأحيانا يرتدي اللباس الليبي التقليدي. له شارب خفيف، ولحية كثة سوداء مهذبة بدقة.

لاحظت ،أنا وزملائي، منذ البداية أننا أمام أستاذ مختلف؛ لا من حيث المعلومات والتمكن في تخصصه، فذلك أمر شاركه فيه أغلب من درَّسنا في تلك المرحلة، فمدرستنا و كما اشرت آنفا لم تكن مدرسة عادية ، فقد حرص مديرها ،الأستاذ حمودة عمران أبوعجيلة ، على اختيار ومتابعة المعلمين، والتأكد من مستوى أدائهم، وتوفيرالجو المناسب لتحقيق أقصى درجات التفوق العلمي للطلاب. فإذا كانت الحال كذلك، فما الذي ميز أستاذنا عن غيره يا ترى؟.

لم يكن أستاذنا يكتفي بالكتاب المدرسي المقرر ومعلوماته الشخصية، بل كان معلما يطبق كل ما من شأنه تيسير توصيل المعلومة التي يحتاج إليها الطالب وتثبيتها في ذهنه ، وأدركت ذلك لاحقا عند دراستي بكلية التربية وتخصصي في اللغة الإنجليزية، حيث كانت المواد التربوية تشكل نسبة مهمة جدا إلى جانب مواد التخصص . أستاذنا كان يستعمل السبورة الوبرية، وأعد لها كل الصور المطلوبة في الدروس خصوصا فيما يتعلق بالحوارات . كان يحضر معه جهاز التسجيل لنتمكن من سماع الدروس من متحدث أصلي من أهل اللغة، كذلك كنا نقوم ببعض التمارين الصوتية بطريقة تشبه تلك التمارين التي كنا نقوم بها في معمل اللغات بالجامعة. ومما شد انتباهي أن أستاذنا لم يكن يستعمل اللغة العربية وسيلة سهلة لتوصيل المعنى، بل كان يبذل قصارى جهده لتجنب ذلك، وإن اضطر وضَّح بلغة عربية فصيحة. وهذا الجهد المكثف من أستاذنا يقابله من طرفنا، الطلاب، التفاعل والمشاركة والانتباه الدائم. نفعل ذلك رغبةً منا في الفهم والتعلم ، ورهبةً منه كذلك، فأستاذنا له أسلوبه المميز كذلك في التقريع والتأنيب؛ فكلمة واحدة أو نظرة استياء كانت كافية لوصول الرسالة، ومازلت أتذكر أني تأخرت ذات حصة فرمقني بنظرة أخطأت على أثرها الطريق إلى مقعدي.

شخصية أستاذنا وأسلوبه وكذلك حرصه، وإن شئت قلت شدته ، كل ذلك حبَّب إليًّ هذه اللغة الجديدة التي أعجبتني وأطربتني موسيقاها، وصرت أحرص على متابعة الدروس أولاً بأول ، بل كنت أجتهد أكثر فأكثر؛ فأبذل جهدي لحفظ كلمات وتعبيرات جديدة من خارج المقرر الدراسي . وهكذا تعلمت على يد أستاذنا مباديء هذه اللغة ودروسها المنهجية، والتي أستطيع أن أقول: إنني بعد الانتهاء من المرحلة الثانوية كنت أستطيع التحدث بالفرنسية بدرجة أدّعِي أنها كانت معقولة إلى حد ما لتحقيق التواصل الضروري بصوره البسيطة.

خلاصة القول في هذا الجانب أن ما شدَّني في هذه السنوات الثلاث هو إخلاص أستاذنا، وتفانيه في أداء واجبه، وحرصه التام على تحقق الاستفادة، وبذل ما بوسعه لبلوغ ذلك ولو تطلب الأمر حصصا إضافية خارج أوقات الدراسة الرسمية ؛ وهذا ما حدث معنا في القسم الأدبي وكذلك القسم العلمي؛ فقد أنهينا المنهج في القسم الأدبي، وأكمل بقية الدروس غير المقررة للقسم العلمي في السنة الثانية والثالثة بعد انتهاء الامتحانات. وأتممنا المنهج مع مراجعة عامة مركزة ، فكانت النتائج بفضل الله ثم بجهد أستاذنا مرضية جدا. كيف لا وقد حققت النتيجة الأعلى في اللغة الفرنسية حيث تحصلت على 93% . كيف لا وقد تقدمت لقسمي اللغة الفرنسية والإنجليزية، وبعد إجراء الاختبار نجحت بتفوق وقُبلت في كليهما.

مربياً وموجهاً:

أستاذنا لم يكن معلم لغة أجنية مغرما بثقافتها الغريبة ، بل كان كثيرا ما يلمح وأحيانا يصرح ببعض توجيهاته الثقافية والفكرية والتربوية. ومما أذكره أنه في نهاية العام الدراسي 79-80 ، خصص لنا حصة أو حصتين ، حدثنا عن أجواء الجامعة المختلفة وما يخالطها من محاذير ينبغي التنبه لها. والحقيقة أنها كانت محاضرة تربوية قيمة ، ركز فيها على موضوع الاختلاط ، وتحدث عن التطور التاريخي للمسألة ، مع الحملة الفرنسية على مصر، وأشار إلى رسالة "المجتمع المختلط" للدكتور محمد محمد حسين. ومما لاشك فيه أن ذلك كان مغامرة من الشيخ ؛ فهذا الأمر لم يكن عاديا ولا معتادا أن يقوم به الأساتذة في تلك المرحلة. وكان يزودنا ببعض الرسائل والكتيبات التي تبين عظمة هذا الدين وعبقرية بعض أعلامه . كذلك عند زيارتنا لمعرض الكتاب في طرابلس اقترح علينا بعض العناوين منها : "الطريق إلى مكة" لمحمد أسد ، وكتاب " الإسلام يتحدى "لوحيد الدين خان، وكتاب " الله يتجلى في عصر العلم " وهو كتاب مترجم لمجموعة من العلماء الأمريكيين في تخصصات علمية مختلفة.

خارج المدرسة:

ولم تقتصر علاقتنا بأستاذنا على المدرسة بل امتدت خارج أسوارها، فكنا نزوره في قريته " وادنة" حيث مقر سكناه؛ هذه القرية التي كانت وما زالت مميزة بأعلامها؛ الشيخ امحمد أبوعجيلة، القاضي فرج جليد، الأستاذ الألمعي عبدالله المكي .رحمهم الله جميعاً. كل هؤلاء دَرَسَ عليهم الشيخُ حمزة في مرحلة ما.

وأحيانا وعند حلول فصل الربيع تستيضفنا أحضان الطبيعة الخضراء، فطبيعة مدينتنا في هذا الفصل خلابة غلابة لا تقاوم . نستنشق الهواء النقي مع كأس من الشاي نعده على نار الحطب الهادئة ، ونتحدث فيما يتحدث فيه الناس من شؤون وأمور حسب الظروف والأحوال، وبالطبع فمثل هذه الأجواء الربيعية وبعيدا عن جدران الفصول والبيوت كانت كفيلة بأن تخفف من الكلفة بين الأستاذ وطلابه .

والشيخ في بيته لا يتكلف في شيء ، نحتسي عنده الشاي، الذي كان يعده بنفسه ، ونتجاذب أطراف الحديث، وأحيانا يكون والده حاضراً . والده، الحاج أبو فارس -رحمه الله- ، كان شخصية ودودة ، عذب الحديث، حاضر الطرفة ، ربطتْه بجدي ، رحمهما الله، علاقة قديمة أيام الأَسْر في مصر في الأربعينات. كان بر الشيخ بأبيه ظاهرا، وكذلك التناغم والأريحية بينهما بعيدا عن الرسمية والجفاف المعتادين بين الآباء والأبناء.

تعرفْنا على إخوانه؛ الأستاذ عبدالنبي، والأستاذ عبد المنصف، والأخ الأصغر عطية ، وهو الآن طبيب استشاري في طب الأطفال. كنت أرى العلاقة بينهم مفعمة بالمحبة والتقدير، أما أبناؤه فتعرفْنا عليهم جميعا؛ أبي بكر وخالد وزيد وأسامة وهمام وعثمان، فقد كانوا يتناوبون على إكرامنا بتقديم الشاي أو الوجبات كلما حللنا عليهم ضيوفا، ويشاركنا بعضهم جلساتنا أحياناً . وتعرفت في بيته العامر على الشيخ محمد بشر، ابن خالة الشيخ حمزة وجاره ، والذي كنت أشعر بأن هناك وداً خاصاً بينهما، وما أظنه إلا ذلك المزيج من القرابة والصداقة . ويصادف أحيانا أن نجد عنده في البيت شيخَه "الشيخ امحمد بوعجيلة"، يتدارسان أحد الكتب. الشيخ امحمد بوعجيلة عالم وفقيه جليل، كان مرجع الفتوى في مسلاتة وما حولها . لا تغادر البسمة محياه ، عليه وقار لا تخطئه العين ، وهدوء واضح في نبرات صوته . وقد كتب عنه أستاذنا بعد وفاته رحمه الله .

أما أصدقاؤه ، فقد عرفت بعضهم عنده ، وصار بعضهم من أصدقائي أيضا. تعرفت عنده على الأستاذ عمران شعيب رحمه الله، أستاذ اللغة العربية، و الدكتور أحمد بوني، أستاذ علم النفس، والدكتور رمضان أبو عجيلة (المحامي)، والدكتور ضو بوني، الأستاذ في قسم التفسير. وممن عرفتهم أيضا عند أستاذنا الأستاذ صالح جليد ، أستاذ الفلسفة ، رحمه الله ، والذي صار من أعز أحبابي و أصدقائي بعد ذلك . وممن عرفتهم عنده أيضا الدكتور عبد السلام الشريف ، رحمه الله، الذي كان أستاذا في كلية القانون في جامعة بنغازي. وقد أخبرني الشيخ حمزة عن علاقته القديمة بالدكتور عبد السلام الشريف والأستاذ عمران شعيب عندما عمل ثلاثتهم معلمين في مدرسة ابتدائية في منطقة " القليل". أستاذنا كان يومها معلماً مؤقتا أما زميلاه فكانا معلميْن متحصليْن على الدبلوم العام؛ وهو دبلوم يمنح بعد دراسة تستغرق أربع سنوات بعد الشهادة الابتدائية.

وهنا، وعلى ذكر الأصدقاء، لابد لي من وقفة مع علاقة خاصة عاصرتها وواكبتها ، ألا وهي علاقة شيخنا بالأستاذ صالح جليد رحمه الله. تعرفت عليه عند الشيخ حمزة عقب عودته من أمريكا سنة 83م بعد انتهائه من دراسته هناك وحصوله على درجة الماجستير في الفلسفة. عاد رحمه الله واستقر لِوقت قصير في بيته في مسلاتة، في نفس قرية الشيخ "وادنه"، ثم انتقل بعد ذلك إلى طرابلس واستقر في تاجوراء . وعند انتقالي إلى طرابلس سنة 1991 سكنت قريبا منه. أتاح لي هذا القرب اللقاء بشيخنا حيث كانت له محاضرات أسبوعية في كلية القانون في طرابلس ، كان يمكث يومين في الغالب، وكانت إقامته عند صديقه الأستاذ صالح جليد. كان يجمع بين الرجلين صداقة قديمة، وأخوّة زادتها الأيام متانة ورسوخا. هناك في شقة الأستاذ صالح جمعتنا لقاءات كثيرة، بل كانت في بعض السنوات لقاءات شبه أسبوعية، أحضرها أنا و بعض الأصدقاء.

الكتب والمخطوطات:

أسماء علماء وعناوين كتب كثيرة أخذت تطرق مسامعنا لأول مرة؛ الإمام الونشريسي، الذي قدَّم أستاذنا دراسة عنه، وحقق الجزء الخاص بالعبادات من كتابه عدة البروق لما في المذهب من الجموع والفروق ، ثم أكمل تحقيق باقي الكتاب لاحقا، وظهر في طبعة رائعة عن دار الغرب الإسلامي. وعرفت من تلك الأسماء الكبيرة القاضي الفقيه المحدث عياض اليحصبي ؛ صاحب كتاب الشفا ، وعرفت الفقيه المالكي أبوبكر بن العربي ، والإمام الباجي ، وابن عبد البر، صاحب كتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد ، وابن رشد الجد ، صاحب البيان والتحصيل وغيرهم. نعم هؤلاء وكتبهم ممن عرفت وعلمت في تلكم الجلسات المباركة .

تعرفت من أستاذنا أيضا على مجلة معهد المخطوطات العربية التي كانت تصدر وقتها في الكويت ، ثم عادت بعد ذلك إلى القاهرة.، وكانت تصله أعدادها بانتظام. وشيخنا متمكن في التحقيق الفقهي، وصاحب تجربة طويلة ممتدة لعقود من الزمن .

وهكذا كانت هذه اللقاءات المتكررة مع الشيخ تتيح لنا الفرصة للاطلاع على عالم كنا نجهله تماما. ومما فاتنا ، للأسف، أننا لم نستفد من هذه الزيارات كفرصة ثمينة لتلقي علم شرعي منهجي، بل كلها جاءت عابرة في ظل أجواء قارة دائمة، فالكتب وأصحابها ممن ذكرت وغيرهم كان حضورهم طاغيا حاضرا حول الشيح جالسا أو مستلقياً أو قائما. فلا تجد الشيخ إلا والكتب تحيط به من كل جانب، وفي كل الظروف والأحوال ولا ينقطع عن القراءة إلا لظروف قاهرة .

هذه الأجواء العلمية ، وإن طغى عليها مجال الشيخ واهتماماته ، لكنها بالنسبة لي قد شكلت حافزاً مهما، ودافعا قويا لولوج عالم القراءة والاطلاع عموما. أذكر أني قرأت كتباً فكرية كثيرة من مكتبته العامرة ، وتحديداً الكتب التي تعالج قضايا مهمة ، مما يثار أحياناً، ويحدث نوعا من الارتباك في الفهم والتشويش على كثيرمن المفاهيم، ومما هو جدير بالذكر أن الشيخ حريص على كتبه؛ يخشى عليها من أي ضرر قد يلحقها ولو كان طفيفاً ، وأدق وصف سمعتُه عن ذلك ما كان يردده صديقنا الأستاذ صالح جليد أن الشيخ يُعيرك الكتاب ويتمنى أن تقرأه دون أن تفتحه؛ وفي ذلك بالطبع ضمان عودته سليما معافى.

والسؤال الذي كان كثيرا ما يراودني هل كان الشيخ منظما في وقته ، مبرمجا له بحيث يستوعب أشغاله والتزاماته المهنية والاجتماعية؟ وكذلك حرصه على التحصيل المعرفي في المجال الذي ارتضاه واختاره لنفسه؛ فالشيخ معلم له التزاماته المهنية ، وهو أب وصاحب أسرة كبيرة، بالإضافة إلى التواصل الاجتماعي مع الناس؛ فهو لا يتغيب عن جنازة في مسلاتة كلها ولا يمنعه من ذلك إلا سفر أو عدم بلوغه الخبر. وكذلك كان يلبي دعوات الأفراح ولا يغيب عنها . فهل كان كل ذلك وفق برنامج عمل منظم بالدقيقة والساعة أم هو إطار عمل عام مستمر لا يتوقف.

اهتمامه باللغات:

ومن الجوانب المهمة والملفتة التي لاحظت اعتناء الشيخ بها: ولَعُه واهتمامه باللغات الأجنبية. فقد بدأ اهتمامه باللغة الفرنسية في أواخر الستينات على يد مهندس لبناني يدعى سامي حداد، كان مشرفا على مشروع إدريس للإسكان في مدينة مسلاتة ، وكان قبل ذلك قد تحصل على كتيب صغير لتعليم الفرنسية من زوج خالته الشيخ بشر، رحمه الله ، كان قد أحضره معه من تونس .

بدأ دروسَ اللغة الفرنسية هو و صديقه الأستاذ عمران شعيب رحمه الله ، وكان مدرسهم ، المهندس ، قد اقترح عليهما شراء كتاب يباع في معرض طرابلس، وتطلَّب الأمر شراء الجهاز المشغل لتلك الاسطواناتً. وبعد مرور شهرين لم يشعرا بفائدة كبيرة كما توقعا من ذلك الكتاب، فترك صديقه مواصلة الدروس، واستمر هو في دراسة الكتاب المقرر للغة الفرنسية في المرحلة الثانوية في ذلك الوقت. وبعد فترة شهرين أو ثلاث، غادر المهندس البلاد بعد انتهاء عمله.

وهكذا تمكن أستاذنا من الإلمام بالأساسيات المهمة، وما يحتاج إلية لاجتياز امتحان اللغة الفرنسية في الشهادة الثانوية . ثم تتابع اهتمامه بهذه اللغة حيث تخصص فيها عند التحاقه بكلية التربية سنة 1972، وابتعث إلى فرنسا في السنة الثانية حيث أمضى العام الدراسي هناك ، كما كان متبعا وقتها في قسم اللغات؛ حيث يدرس طلاب قسمي اللغة الإنجليزية والفرنسبة السنة الثانية في لندن وباريس. وكذلك تحصل بعد سنة من تخرجه على بعثة دراسية لمدة عام دراسي.

ومما أعلمه أنه يتكلم الإنجليزية بصورة جيدة ، وقد كان قديما يخصص لها بعض وقته ، وما زلت أتذكر تلك السلسلة التعليمية " آفاق جديدة في اللغة الإنجليزية" والتي كنا نجدها بأجزائها الستة بجانبه.

ولأستاذنا بعض الإلمام باللغة الألمانية التي تعلمها في رحلته الثانية إلى فرنسا؛ حيث كان جاره مهندساً ألمانيا، فاتفق معه أن يعلمه الألمانية مقابل أن يعلمه هو العربية. وفي السنة الثالثة من دراسته الجامعية اقترح عليه صديقه الدكتور جبريل سويدان ، عافاه الله ، والذي كان يعلم حبه للغات وشغفه بها، أن يلتحق بدورة في اللغة الألمانية تنظمها كلية الهندسة تحت إشراف السفارة الألمانية في طرابلس. وانتهت الدورة، وتحصَّل أستاذنا على الترتيب الثاني، وكانت المكافأة للأول والثاني الحصول على دورة مجانية في ألمانيا مدتها شهر ونصف، لكن تأخر التأشيرة واقتراب موعد الدراسة منعاه من الالتحاق بها.

الصبر والاستمرار ووضوح الرؤية:

لو سئلت عن أهم أسباب نجاح أستاذنا بعد توفيق الله تعالى لقُلتْ دون تردد: إنها نتيجة طبيعية لوضوح الرؤية عنده والاستمرار وعدم التوقف مهما كانت الظروف المحيطة به التي قد تصيب الإنسان بالإحباط فيستسلم ويتراجع عن أهدافه ولا يحقق منها شيئا. ولو استعرضنا مسيرة الشيخ لوجدنا تصديقاً وبيانا لهذا، فالطموح كان مصاحبا له منذ شبابه ، فقد عمل معلما مؤقتا بعد حصوله على الشهادة الإعدادية، لكنه لم يتوقف عن الدراسة، بل واصل الدراسة وتحصل على إجازة المعلمين الخاصة ، وتحصل على الشهادة الثانوية منتسباً .ثم التحق بكلية التربية، قسم اللغة الفرنسية، طالبا في الفترة الصباحية ، ومدرسا في الفترة المسائية. وفي أوائل الثمانينات بدأ مشواره في الدراسات العليا في قسم الإسلاميات التابع لقسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية وتحصل منه على الماجستير، وكان مشرفه على الرسالة الدكتور عبدالسلام أبو ناجي ، رحمه الله وطيب ثراه. ثم نال درجة الدكتوراة في تونس عن أطروحته ( القاضي عبدالوهاب ومنهجه في شرح الرسالة).

وهكذا أصبح أستاذنا، بعد رحلة علمية موفقة، أستاذا جامعيا ، يحاضر في كليات القانون في طرابلس وبنغازي وترهونة..
وفي صيف سنة 1998، اضطررتُ لمغادرة البلد ، وبذلك توقف التواصل مع الشيخ ومع الأهل والأحباب والأصحاب. استمر هذا الانقطاع لسنوات حتى أتيح للشيخ سنة 2002 السفر لبريطانيا لزيارة ابنه الدكتور أبي بكر، فشددت إليه الرحال، أنا وأخي وصديقي الدكتور محمد احفيظ حيث التقينا في لندن في بيت صديقنا رمضان خالد.

ومن محاسن الصدف ، بل من أجمل الأقدار أن مقر المجلس الأوروبي وأمانته العامة كان عندنا في دبلن ، في المركز الثقافي الإسلامي ، وكنت يومها السكرتير التنفيذي للمركز. فلما علمتُ أن الدورة الثالثة عشرة للمجلس الأوربي لسنة 2004، وكذلك اللقاء التاسيسي للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين سيعقدان في لندن ، اغتنمت الفرصة، وطلبتُ من الأمين العام للمجلس، الشيخة حسين حلاوة إرسال دعوة للشيخ حمزة لحضور جلسات المجلس الأوروبي، وحضور الإعلان التأسيسي للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ، فرحب بذلك وتكرم بإرسال الدعوة ، وهكذا التقينا مرةً أخرى في لندن.

نشري لبعض أبحاثه:

وفي شهر أغسطس2004 أيضا تم تدشين صحيفة ليبيا اليوم الإلكترونية، والتي أحدثتْ نقلة نوعية من حيث المحتوى المتنوع والمشاركة الواسعة من داخل البلاد في تلك الفترة، والتي كانت تشهد نوعا من الانفتاح، فأجريت معه حواراً نُشِر في هذه الصحيفة ، ونشرت له ورقة بعنوان " رسالة من فقيه ". وقمت أيضا بنشر بعض الموضوعات من كتب الشيخ خصوصا كتابه "أضواء على جوانب من حياة ليبيا العلمية"، وكذلك كتاب " بحوث ومقالات"، نشرت بعضها في الموقع الليبية الأخرى مثل: "جيل" و "بلد الطيوب" .

وفي صيف 2007 عدت للبلاد بعد غياب طويل ، وعاد التواصل من جديد، وتكررت زياراتي، وفي كل مرة كان لابد من اللقاء بأستاذي الذي يصر على استضافتي على مأدبة غداء أو عشاء، ويشرّفني بإهدائه لآخر مؤلفاته ممهوراً بتوقيعه.

سيرة حافلة لو تُدون:

ومما أعلمه أن للشيخ ذاكرةً قوية فتيةً ، تتذكر أدق التفاصيل ، على الأقل فيما يتعلق بالقديم من تاريخ حياته، رغم إصراره المستمر على ضعف ذاكرته، وللتأكد من ذلك ما عليك إلا أن تستدرجه للحديث عن حدث ما أو كتاب ما أو شخص ما ، فسيسترسل ويذكر التفاصيل بأسلوب رائع ممتع.

وكم تمنيت، وما زلت أتمنى أن يكتب أستاذُنا سيرةَ حياته بنفسه؛ لأنه إن فعل فإنّنا والأجيال القادمة سيكون بإمكاننا الاطلاع على جوانب كثيرة مهمة لا يستطيع أحد أن يلقي عليها الضوء سواه. فسِيَر الكبارمن الأعلام يعتريها ما يعتري غيرهم من الناس من الطموحات الكبيرة والآمال العريضة ، وكذلك الصعوبات والإخفاقات ، لكن ما يميزهم عن غيرهم هو الصبر والإصرار والاستمرارعلى الطريق ، فيبلغون آخر المطاف مقصدهم، ويحققون بعد تعب ونصبٍ أهدافهم وغاياتهم. رحلة الشيخ العلمية طويلة، وكذلك تجربته العملية ثرية غنية، تستحق التفصيل، ولا تغني عنها الكلمات الموجزة القصيرة.

رحلته في عالم الكتب والمخطوطات، وتجربته في تعلم اللغات، وزياراته للمكتبات، ولقاؤه بالعلماء ومشاركاته في المجامع والمجالس العلمية، في ثنايا كل ذلك قصص وأحداث ووقائع من المفيد جدا تدوينها وتوثيقها. في كل ذلك تصوير لعصر بل لعصور مختلفة؛ تنوعت واختلفت فيها المشاهد السياسية والثقافية والعلمية في بلادنا من حيث الممارسات والأدوات والمصادر، وأثَّر كل ذلك على واقع وحياة الناس.

هذا بعض ما وعتْه الذاكرة، وما تبقَّى فيها من صور وذكريات. لقد عرفت الشيخ مدرساً شابا، وعرفتُه أستاذاً جامعيا، وعرفتُه فقيها عالما؛ عضوا في المجامع الفقهية ، مرجعا للعلم والفتوى، وعرفته وزيرا للأوقاف، فما غيَّر ذلك من شيء في سمته وخلقه الرفيع وتواضعه الجم، ووفائة ومحبته لإخوانه وأصدقائه .

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  1442