الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

أشتات في ذكرى أديب العلماء محمد رجب البيومي

أحمد السيد الهنداوي

مقالة

تاريخ النشر: 2025/01/30
اقرأ للكاتب
تحل في شهر فبراير المقبل الذكرى الثالثة عشر لرحيل الدكتور محمد رجب البيومي رحمه الله وقد كانت مئويته تزامنت في أكتوبر 2023م مع أحداث طوفان الأقصى فانشغل الناس مع الخطوب التي نزلت و استفحلت شيئا فشيئا حتى أذهلت الناس عن الالتفات إلى أي شيء سواها وكما كان الأمر في وقت الوفاة أثناء ثورة يناير لعام 2011م حين توفي د. البيومي في خضم الأحداث وغفل الناس عن وفاته وانشغلوا بما يحدث تكرر الأمر في ذكرى المئوية مجددا وكأنما انطبق عليه ما كان يتوجس منه بظهر الغيب ربما حين نقل في كتابه عن فريد وجدي: "إن يكن اليوم لا يُذكر حق ذكراه، فما هو بالخمول ولا هو بالقصور عن حق التاريخ، ولكنه يعيش في عزلة من دنيا التاريخ كما عاش أيامه في عزلة من دنيا الحياة ".

وهي مقولة ذكرها العقاد في حق فريد وجدي وأظنها الآن أوصف لحال الدكتور رجب البيومي. ولكن هل هناك فرصة لتجديد ذكرى الأستاذ الدكتور محمد رجب البيومي بما يليق في دوره وقدره الذي يستحقه بعد عمره الذي قضاه في الكتابة والمشاركة في ميادين الفكر و الأدب والثقافة والدفاع عن الهوية الإسلامية في ساحاتها؟

هل هناك فرصة لإقامة مؤتمر عام يرعاه الأزهر الذي كان الدكتور رجب رئيسا لمجلته الرسمية سنين طوال قبل أن يتوفاه الله فيكون بهذا تكريمًا يستحقه و إحياء لسنة التذكير بأعلام الأمة الذين خدموا تراثها و أوقفوا حياتهم على إبراز مواطن الأصالة والجمال في تراثها وأدبها وتاريخها وفكرها؟ نرجو ونطمع في هذا الأمر ولا نمل من تكرار النداء إلى أن يشاء الله.

قلم سيال ولكن

من الظواهر اللافتة في تتبع نتاج الدكتور رجب البيومي المقالي ألا وهو كثرة مقالاته في مختلف الصحف والمجلات والدوريات ولم يكن هذا عن رغبة في التوسع والانتشار وحب الاشتهار فإن كل من عرف الدكتور يعلم عنه انقباضه عن بهارج الاحتفاء وأجواء الصخب التي تقترن بهذه الأمور ولكن كان الأمر ببساطة حياء الدكتور من رد يد طالبي المشاركات في المجلات المختلفة وقد كان يعينهم في الطلب والإلحاح فيه ما كانوا يرونه في البيومي من موسوعية في الثقافة ومرونة في الأسلوب ووعي بسياقات ما يطلب الكتابة بشأنه وهي صفات لم يتكن موجودة بكثرة في الأوساط الأزهرية التي برز منها الدكتور , وفي الوقت نفسه كان الدكتور يثقل على نفسه أن يُرى اسمه لأكثر من مرة في العدد الواحد كما كان الأمر في مجلة الأزهر فكان يلجأ أحيانًا للكتابة تحت إسم ( أبو حسام ) ولو كان فعل خلاف هذا لما ليم في ذلك لكنها كانت نفسُا حيية عرف بها رحمه الله ولازمته في مسالكه الحياتية قبل أن تظهر في تصرفاته الثقافية.

مودة الغرباء

رغم أن الطابع العام لشخصية الدكتور البيومي كان إيثار العزلة والبعد عن مخالطة الناس إلا بالقدر الذي لابد منه فقد كان محلا للاحتفاء و إقبال الناس عليه في المواضع التي كان ينزل فيها زائرًا أو مقيمًا , و الدكتور البيومي قد سافر إلى المملكة في السبعينيات ومكث فيها سنوات أربع تقريبًا قبل أن يعود إلى مصر بسبب وفاة زوجته رحمها الله ولكنه عاد بعلاقات واسعة و صلات مع مثقفي المملكة وعدد من وجهائها وأعيانها وعلمائها ربما تجاوزت صلاته بالمثقفين في مصر , والمطالع لكتب تراجم البيومي في ( كيف عرفت هؤلاء ) و ( النهضة الإسلامية ) وحتى مذكراته ورسائله التي أخرجها الكاتب السعودي سعد بن عايض العتيبي يرى كيف كانت هذه العلاقات من المتانة والقوة ..فقد ظل يكتب في المجلات الثقافية السعودية زمنا طويلا بعد رجوعه إلى مصر وظل ينشر في بعض دور العودية بل إن مذكراته الشخصية قد طبعت في المملكة وحدها ولا تعرف لها طبعة أخرى خلاف هذه الطبعة التي صدر في جدة ومعلوم أن الدكتور قد كرم في الاثنينية في عام 1990م في شهر فبراير في احتفال كبير أظهر ما ترك البيومي من أثر طيب وذكريات حميدة عند أهل المملكة وبعد أن توفي خصصت مجلة المنهل عددًا خاصًا للاحتفاء به في يوليو لعام 2011م.

نفس عفيفة وقلب محب

نشأ الدكتور محمد رجب البيومي نشاة دينية محافظة في كنف والده الذي كان يحب ان يراه شيخًا تقيا عالمًا , ولم يتعارض هذا بدوره مع الطبيعة الشاعرية التي رافقت شخصية البيومي في حياته فعرف الشعر وتذوقه ,وعرف مشاعر الحب العفيف وكتب في مذكراته عن حبه الأول في مقتبل شبابه وقد تعلق بفتاته تعلقًا جعله ينقل دراسته إلى حيث تسكن بالأسكندرية ولكنه كان رقيق الحال قياسًا إلى مستوى أسرتها وقد علمت فتاته حرج الموقف فلم تلح عليه بالإقبال على أمر قد يجرح شعوره , فانطوى على ذكرى بقيت تسكن قلبه ولم تخفف لوعتها الأيام حتى لقي أم أولاده فتزوجها وأنجب منها وعاشت معه حتى مرضت وتوفاها الله ولعل اللافت أن الدكتور قد تجنب ذكر قصة زواجه وكيفية تعرفه على زوجته وربما قد اكتفى بديوانه الحافل في رثائها فلم تتحمل نفسه حياء أن يجدد ذكر الأحزان ..أما حبه الأول – وللحب الأول سطوة لا يغالبها شيء – فقد ظل يرافقه حتى النهاية ومن أسف أنها هي الأخرى قد توفاها الله في حياته , ومن يقرأ هذا الجزء من مذكراته يرى قدر النبل في مشاعر الدكتور رجب رحمه الله مع إكباره لشجاعة التصريح و التحدث عن أمور لا زال الكثيرون يرونها مما لا يليق وقديما كان الشافعي رضي الله عنه يقول عن مثل هذا لصاحبه : لا تخبر بهذا أهل الحديث فأنهم لا يحتملون هذا , ولكن الدكتور رجب أخبر واحتمل!

إسهاب وصراحة ليتهما يظهران أكثر

كان الدكتور رجب البيومي ممن يسهب في رسائله بأكثر مما يفعل في سائر مقالاته ليس لأنه يخشى مغبة البوح أو يخاف من التصريح بشيء ولكنها كانت طبيعته التي تنشد التحفظ في النقد و وزن الأمور بطريقة لا يترتب عليها إغضاب أحد أو إثارة حفيظة أحد وبرغم هذا فإن الرسائل التي نشرت ضمن مراسلات بعض طلاب العلم والمثقفين مع الدكتور البيومي قد حوت آراء و مواقف أكثر وضوحًا في التعبير عن مواقفه وفيها استرسالات مفيدة مثل الرسائل التي نشرها الشيخ مجد مكي والرسائل التي نشرها الأديب السعودي سعد العتيبي وقد أشار الدكتور رجب البيومي إلى مراسلات مهمة بينه وبين الدكتور عبد العزيز الدسوقي الناقد والأديب وكان يذكر مازحًا أن الدكتور عبد العزيز الدسوقي كان يهدده بنشر هذه الرسائل وفيها آراء الدكتور البيومي الصريحة في بعض الأعلام , وأيا ما كان الأمر فإن نشر المراسلات الشخصية بين الأعلام الذين كانت لهم بالدكتور رجب صلات أدبية وثقافية قد يفيد كثيرًا في الإفادة بما كان عنده من أخبار وأنباء و إشارات يندر ان توجد عند غيره ومثله بالتأكيد سيكون ملمًا بأمور لا يعرفها غيره بحكم مئات الأعلام الذين عرفهم وكان شاهدًا على مواقفهم وحكاياتهم.

تراث يغني صاحبه

مما يلفت النظر في مقالات الدكتور البيومي أنه كان كثير الاستحضار للأخبار و المواقف التي يرد ذكرها في مجلات الهلال والرسالة و الثقافة و المقتطف والبلاغ وقد كان هذا الاستحضار في عصر ما قبل الانترنت ونتائج البحث التي باتت تظهر في ثوان سريعة مما يميز الدكتور رجب عن كثير من النقاد والأدباء في زمانه إذا اقتضى الأمر أن يحتج المناقش بدليل من خبر تاريخي أو قول لعلم من الأعلام في قضية أدبية او معركة من المعارك الفكرية والذي يقرأ مقالاته في الفترة الأخيرة من عمره في الثمانينات و التسعينيات في الهلال والأزهر والمقالات التي جمعت في بعض الكتب مثل ( حديث القلم ) و ( قطرات من المداد ) يرى كثرة استشهاد الدكتور رجب بهذه الأخبار وايرادها بشكل سلس غير متكلف بما يعطي لنظراته النقدية وأحكامه على المواقف التي يناقشها وجاهة حتى ولو لم تجد نفسك متفقًا مع ما يذهب إليه الدكتور البيومي في أحكامه ولكنك لا تملك سوى أن تحترم جهده في الاحتجاج لما يريد قوله وعدم الاستسهال.

أساتذته الذين تأثر بهم

كان الدكتور رجب البيومي دائم الإشارة إلى فضل الأساتذة والرواد الذين أفاد منهم ..لا يفتأ في مقالاته وفي كتاباته وحتى في رسائله الشخصية أن يذكر موقفًا لهذا الأستاذ أو يستشهد بكلمة لذاك الأستاذ , ولكن الذي يصاحب كتابات الأستاذ ويقرأ سيرته الذاتية ( ظلال من حياتي ) يلاحظ أن الأستاذ قد تأثر أكثر ما تأثر بأربعة شخصيات:
- محمد فريد وجدي
- أحمد حسن الزيات
- أحمد أمين
- عبد الرحمن شكري
وقد كتب عن كل واحد منهم كتابًا أو اعتنى بشيء من تراثه ومع هؤلاء كان الدكتور البيومي متأثرًا بمحمد عبد الغني حسن و علي أدهم و علي الجارم وأحمد محرم وقد كتب عن هؤلاء جميعًا في كتابه ( النهضة الإسلامية ) وترجم لهم ترجمة المحب المستفيد و الرفيق المكبر لشخص هؤلاء الأعلام ومما يلاحظ أن الدكتور البيومي كان معتنيا بوصف صحبته لهؤلاء الأعلام مع عرض إسهاماتهم في ميادين الفكر والتراث والأدب وعلى الرغم من هذا فقد كان يقتضيه الأمر أحيانًا أن يوازن بين هؤلاء الأعلام أو يناقش بعض ما يتعلق بهم مثلما فعل في مقاله (الثقافة بين الزيات وأحمد أمين ) وقد تناول فيه صفحة مهمة من صفحات التاريخ الأدبي الثقافي عبر تناوله أسباب الخلاف بين الزيات وأحمد أمين وتعرضه للظروف التي نشأت فيها مجلة الثقافة لأحمد أمين والمواقف التي وسعت الهوة بينهما وقد كان يُحمل فيها أحمد أمين ضمنيًا مسئولية هذا الخلاف وإن لم يؤد به هذا إلى تجريحه أو الغض من قدره , وقد كان هذا دأب الدكتور رجب مع أساتذته و رفاقه وحتى خصومه بحكم الانتماء الفكري و المشرب الثقافي وقد كان في هذا مثالًا يحتذى في الجمع بين أدب النفس و أدب الدرس ..رحم الله أستاذنا الجليل وغفر له وتقبل صالح أعماله.
شريف بكر2025/02/02
سلمت يمناك

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  3838