الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

كيف حالك؟

سلمى الصابري

مقالة

تاريخ النشر: 2025/02/09
اقرأ للكاتب
هدوء صاخب، حزن بادٍ، وحدة أنيسة، ذهن حاضر، صفات ما وجدتها في امرئ إلا أقبلت عليه أبتغي معرفته، وأروم صحبته.
في فسحة المدرسة كنت أبتعد عن الزحام وأبحث عن وحيدة تجالس طعامها لأكون مؤنسة لها، في الجامعة إن مللت كتبي وطالت ساعات الانتظار ذهبت أبحث عن هؤلاء الناس الذين أنا منهم وهم مني، لم أكن أجد الكثير فالجميع هنا يحترف التظاهر والتكلف، غير أني لمحت مرة امرأة مسنة تجر خطواتها بصعوبة، كانت أما لإحدى طالبات الليسانس، دنوت منها قائلة: كيف حالك؟ وعند هذه النقطة، عند هذا السؤال الحساس جدًّا، بدأت علاقتنا، وكنت إذا غبت عنها أو غابت عني شهورا ذوات عدد ثم رأيتها، أسرعت إليها كأنني وجدت كنزًا أضعته، وأعدت عليها السؤال الحساس جدا: كيف حالك؟ فترد: أنتِ أنتِ! أقول: نعم نعم، أنا أنا، ترد لي سؤالي: كيف حالك يا بنتي؟ كيف حال والدتك؟ ماذا فعلتِ بدراستك؟ وهكذا تسألني دفعة واحدة، بقيت علاقتنا حتى أصبحت ابنتُها في مرحلة الماجستير، كانت امرأة حلوة اللسان طيبة القلب لينة العريكة، من الذين إذا رأيتهم حسبتهم من زمن غير زمننا، تحكي لي عن هذا العالم بعين البصير الذي عارك الحياة طويلا، تبالغ في نصحي، تختم دوما بقولها: والدتك! امرأة طيبة، الله الله في البر بها. وهي لم تر والدتي قط، لكنه الإحسان إذا خالطت بشاشته القلوب.
ثم فجأة انقطع عني خبرها، أزور كل حين مكاننا المفضل في الجامعة "السور الأبيض الكبير"، أقول لعلها تأتي، لعلها تجلس هنا ثانية، غير أن الزمان كعادته في سرقة محبوباتنا منا.
* * *

في حفل نسائي ما، مللت الجو الصاخب فجعلت أدير بصري بحثا عن هؤلاء الناس، يا ألله وجدتها! قلت لنفسي وأنا أنظر إلى عاملة النظافة، كانت تجلس في طرف المنزل تراقب مظاهر الفرح وتبتسم، أقبلت إليها وجلست بجانبها فعجبت، فمكان اللاتي يرتدين الفساتين ليس هنا! ابتسمتُ، سألتها: كيف حالك؟ وعند هذه النقطة، عند هذا السؤال الحساس جدًّا، بدأت علاقتنا، عرفت أنها من السودان، وهنا أصبحتُ طفلا صغيرا وجد قطعة حلوى! السودان! يا ألله كم أحبها، عندي صديقات سودانيات، أحفظ أغانيكم، أحب قلوبكم، أنتم من أطيب من عرفت، أتعلمين؟ أعرف شيئا عن عاداتكم، السودان جريحة، يا ألله كم أود زيارتها، وهنا، عند هذا الكلام الحساس جدًّا، نسيت هذه المرأة الحفل وصارت تصغي إليّ بفرحة أشد من سابقتها، وبدأت تحكي لي عن مدينتها التي اضطرت إلى الاغتراب عنها، وعن أهلها هنالك، وأحلامها التي تركتها خلفها، وانتهى الحفل وحديثنا لم ينته.
* * *

في مكان عملي، حين أجد وقت فراغ -وما أضنَّ مكان العمل به- أبحث عن هؤلاء الناس، أجدني أفضلهم على كتبي أحيانا، إن تكن تلك الأوراق كتبًا مقروءة فهؤلاء الناس كتبٌ ناطقة!
كنت أبتسم إلى عاملة النظافة هنا، بيننا علاقة صباحية، أقول لها صباح الخير ترد بـ Good morning، ثم تسعى كل منا في أرضها، وذلك كل يوم، غير أنه ذات مرة أردت أن أسألها ذلك السؤال الحساس جدًّا، صبّحت عليها، وسألتها، فلم تكن تعرف العربيّة، وهنا، عند هذه النقطة، وعند هذه القضية الحساسة جدًّا بالنسبة لي، بدأت علاقتنا، أصبحت أعلمها شيئا من لغتنا العظيمة، وشيئا من لهجتنا حتى تفهمنا، ثم حين نلتقي في الممرات نبتسم، كانت تشكرني بعينيها، وكأنها تقول لي: إن علاقتنا أصبحت لُغوية بعد أن كانت صباحية، وكنت أرد بعيني: بل الشكر لك.
أحيانا تباغتني وأنا منهمكة في العمل: سلمى، ماذا نقول لليد؟ تقول ذلك بالإنجليزية، أرد: يدٌ، فتذهب تردد ذلك بأعلى صوت: يد يد يد، مخافة نسيانه، وأنا أثني عليها ثناء، وأحيانا أصفق لها.
غير أنه، وكعادة الحياة في سرقة محبوباتنا منا، أتيت مرة إلى العمل، فلم أجدها، كانوا قد استبدلوها، ولم يمهلونا حتى الوداع.
* * *
"كيف حالك؟"، هذا السؤال الحساس جدا، لازمني ولازمته حتى صرنا لا نفترق أبدا، تضحك أختي وابنة خالي كلما سألتهما هذا السؤال فجأة حين نتحدث، بل كثيرا ما يضجران مني، إذ أعيده على مسامعهما غير مرة، حتى لقّبتاني "سلمى كيف حالك"، وحين أهمّ بقول شيء تصيحان: لا! نرجوك، ليس ذاك السؤال!
لا أكرر هذا السؤال على الناس، هذا سؤال مقدّس لا ينبغي أن يستهلك، لكن أختي وابنة خالي لا تجيبان عنه، تأخذانه مزحة، وفي أحسن الأحوال تجيبان: حالنا كما تعلمين، كيف سنكون؟
* * *
في العلاج النفسي، لا يسمح للمعالِج بمعالجة مريض من أقربائه أو معارفه، إذ سيعيق ذلك العلاج، تلك العلاقة القائمة بينهما لن تسمح للمريض بأن يقول كل شيء، ولن تسمح للمعالج بأن يعرف كل شيء، والعلاج برمته يقوم على كل شيء، على كشف السر!
والناس؟ الناس تتزين لمعارفها، تبدي أجمل ما عندها، فحقيقتنا ستبعد الآخرين عنا، من منا سيخاطر بعلاقاته؟
لذلك لا تجيب أختي وابنة خالي عن سؤالي كما أريد، لكن الغرباء، أولئك الذين لا يعرفونني ولا أعرفهم، يجيبون عنه بصدق.
ولذلك، حين يسمع أحد من معارفي بتخصصي، أول ما يقوله: أنا أول من سيعالج عندك، ولحسن الحظ، هذا آخر ما قد يحدث، أقول.
* * *
عودًا على بدء، طالما تمنيت أن أكون فداء لكل وحيد حزين على هذه الأرض، لذلك، في امتحان قبول تخصصي سُئلنا: لماذا اخترتم هذا المجال دون غيره؟ فأجبت: الآخر، الناس.
وحين خرجنا من المقابلة، سألت البنات اللواتي كنّ معي: ماذا أجبتن؟ قالت لي إحداهن كلامًا لم أنسه قط، قالت: كتبت لنفسي، لأفهم نفسي. هنا، وعند هذه النقطة الحساسة جدًّا، أدركت أنني لا أفكر بنفسي، نسيتها، من سيكون فداء لكِ يا أنتِ إذن؟
وهنا، عند هذه النقطة الحساسة جدًّا، عند هذا السطر تمامًا، تذكرت أبياتًا لعبد الرزاق عبد الواحد يقول فيها:
وذروة مأساتنا أننا
نَسُرُّ، ولكننا لا نُسَرّْ!
وانتهت النقاط.

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  7322