الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

صديق

يحيى أحمد محمود

قصة

تاريخ النشر: 2024/04/13
اقرأ للكاتب
زمان، وقعت بيني وبين أحد الأصدقاء خصومة.
وكان الحق معي، ليس لأنني ملاك لا أخطئ. بالعكس، بل أنا بشر مثلكم، أخطئ وأصيب. لكن تصادف أنني كنت في هذا الموقف على صواب.
والغريب أنني اكتشفت لاحقًا أنني كنت على صواب في كل المواقف التي ظننت فيها أنني على صواب. صدفة من أغرب ما يكون!
ومرت الأيام وتفسخت صداقتنا وانحل عقدها إلى أن صادفت هذا الصديق في المترو.
ذكّرني مرآه بسابق المودة، فرق له قلبي، ورفّت عيني تريد تشوفه، وكفوفي تشبك في كفوفه، فتقدمت نحوه مبتسمًا ومددت يدي للسلام.
لن تصدقوا ما حدث. قصة ولا في الخيال. نظر نحوي بقرف، وتركني ومشى!!!
ظلت يدي ممدودة في الفراغ. نظر ركاب المترو وضحكوا. انهمر ماء وجهي وأغرق العربة، فوقع ماس كهربائي أحرق الجميع.
طبعًا لم تقرأوا عن هذا الحادث في أي جريدة رسمية لأنه وقع في خيالي (وربما آن الأوان لأن أصدر جريدة أخبار حوادث خيالي لنقل هذه الأمور الخطيرة).
تجمد بي الزمان في تلك اللحظة. تحولت إلى تمثال من الملح ثم انهرت وأصبحت هشيمًا تذروه الرياح. كان هذا الموقف بالنسبة لي بمثابة أحداث ١١ سبتمبر لأمريكا. تدمرت أبراج كرامتي واشتعلت فيها النيران.
وحين قابلت شلة الأصدقاء في المساء كنت أتميز من الغيظ. جمعتهم وحكيت لهم الموقف بالتفصيل وأنا لا أكاد أصدق. أجّرت مجاميع كومبارس لتقوم بدور ركاب عربة المترو. شرحت لهم كل شيء. كانت محاولة تهدئتي أشبه بإطفاء النيران بالكيروسين. كنت أعوي من الغضب. فقدت صوابي. تجننت.
وكما يحدث في أفلام السوبر هيروز، كان هذا الموقف بمثابة اللحظة التي يتحول فيها البطل الطيب إلى فيلين، أي وغد.
أصبح هذا الصديق السابق على رأس قائمة أعدائي العشرة الألد وقائمة العادات السبع للأشخاص الأكثر فاعلية لستيفن آر كوفي.
وانقطعت علاقتي بهذا الإنسان لسنوات طوال. لكنني كنت أخطط للحظة الانتقام ولو بعد حين. قضيت الليالي الطوال أتقلب على جمر النيران. كنت أتذكر هذا الموقف حال نومي، فأستيقظ غضبًا وأفتح الشباك في الليالي القمرية وأعوي كالذئاب: أعووووو.
أرجو ألا يفهم القراء من ذلك أنني إنسان يحمل الأحقاد والضغائن. بالعكس. أنا إنسان طيب. بل إن عيبي أنني طيب زيادة عن اللزوم. كل ما في الأمر أنني لا أنسى الإساءة، ولا أسامح من آذاني وأعشق للانتقام. (انتبهت الآن إلى أن هذا ربما يعني أنني أحمل الضغائن).
ومرت السنون، وجرت في النهر مياه كثيرة ووقع نظام حسني مبارك يا طيار جبت منين سبعين مليار، ولأول مرة في حياتي صارت طموح سياسية. كنت أخطط لكي أصبح رئيسًا للبلاد.
وفي يوم التنصيب، في عاصمتي الإدارية الجديدة، كنت سأدعوه أمام الملايين. سيمد يده لي، لكنني سأنظر له بقرف وسأوبخه أمام مليارات البشر والصحف العالمية. آه! كنت سأسمعه كلامًا مؤلمًا كأنه السم الزعاف. كنت سألقنه درسًا! ثم بعد ذلك أرمي المايك وأتنازل عن الحكم فورًا.
كنت أرى نفسي بمثابة النسخة المصرية من المشير سوار الذهب. لكن الفارق أنني كنت سأتخلى عن الحكم للعسكريين لأن هذا البلد بحاجة إلى حاكم عسكري.
ومرت المزيد من السنون، وانشغلت وسافرت وتألمت فتعلمت، وعملت حادثة تكسرت فيها قطعًا وجمعني الأطباء كقطع الليغو، ثم عدت إلى بلادي وإن جارت عليّ، والتقيت هذا الإنسان مع جماعة الأصدقاء بعد سنوات من الغياب.
بصراحة، كنت لا أزال غاضبًا منه في البداية، حتى أنني فكرت في أن أدس له الزرنيخ في الشاي، لكنني لم أفعل، لأن الأطباء حذروني بعد الحادثة من دس الزرنيخ في الشاي للآخرين.
لكن صدقوني حين أقول لكم إنّ الزمن يعالج كل شيء. بالتدريج تحسنت علاقتنا وعادت المياه إلى مجاريها والتئم شمل المجموعة، ثم سرعان ما فرقتنا الأيام وتصدع شملنا، وتفرقنا شذر مذر وذهبنا أيدي سبأ.
وما أعجب تصاريف الزمان إذ سافر جميع الأصدقاء وانشغل الباقون ولم يبق لي سوى هذا الصديق! وهكذا، صرنا نلتقي أسبوعيًا. نشاهد مباراة أو فيلمًا ونشكو تكاليف الحياة ونتجاذب أطراف الأحاديث. نتقابل مهما تكن الظروف ونتقهوى ولو في خشم الأسد.
ثم إنني وقعت منذ فترة على كراسة المذكرات التي كنت أكتب فيها يومياتي وقت حادثة المترو، ووجدت وفيها أوصافًا بالغة القسوة في وصف هذا الصديق وكيف أن علاقتي انتهت به إلى غير رجعة، وأنني حذفته من حياتي وألقيت به في صندوق العدم. فانظر كيف تغير الحال!
وما أصدق المثل القائل: مكتوب على ورق الحلاوة لا محبة إلا بعد عداوة.
كل مرة نلتقي نتذاكر هذا الموقف. يقول: فاكر موقف المترو ويضحك هكذا: هههههههههههه. وأنا أيضًا أضحك، لكنها ضحكة صفراء (ههه وأحيانًا: هههه).
حكيت لكم كل هذا لأنه بالأمس أنقذ حياتي.
نعم. كنا جالسين على المقهى نتسلى باللب، فوقفت قشرة في حلقي. للحظات ظننت أنها النهاية. مر أمام عيني شريط ذكرياتي. أدركت حقيقة الدنيا في هذه اللحظات. اتضح أنّ الدنيا لا قيمة لها.
قال لي صديقي: أجيب لك مياه؟ سعلت مرتين ثم قلت: لا تمام. فقال: ماشي.
همم… لكنني الآن بعد أن انقشعت الغمامة واتضحت الرؤية ورأيت هذه الكلمات مكتوبة، يبدو لي أنني بالغت حين وصفت ما حصل بأنه “أنقذ حياتي”. في الحقيقة، يبدو لي الآن أن موقفه كان لا يخلو من برودة وتراخ. لماذا لم يقم فورًا ويحضر لي المياه؟
لست مصابا بالبرانويا، لكن… أليس من جملة العجائب أنه هو من اشترى اللب؟
هل… معقول؟! هل كانت هذه خطته من البداية؟!
هممم... ماشي.
لا بأس.
يمنيًا لأدفعنّك الثمن غاليًا!

المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  2789