الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

نعيم الجهل

يحيى أحمد محمود

مقالة

تاريخ النشر: 2024/07/01
اقرأ للكاتب
في مثل هذا اليوم من كل عام، تستدعي ذاكرتي، من تلقاء نفسها، ذكرى إنسان قابلته في مطعم منذ سنوات.
كنت مدعوًا إلى الغداء من أستاذة جامعية كنت أنشط طلابها. كنت الوحيد تقريبًا الذي يتجاوب في الفصل، إلى حد كنت أشعر معه بالحرج أحيانًا.
كانت تسأل السؤال فلا يجيب أحد من الطلاب ولا تسمع لهم ركزًا. فكنت أرفع يدي فيشرق وجه المسكينة وتقول: نعم يا يهيا.. تفضل. وأحيانًا تسأل سؤالًا آخر فتقول: هل من مجيب غير يهيا؟ هههه فيسود صمت كصمت القبور، فأرفع يدي مترددًا لإنقاذ الموقف، فتقول بحرج: إذن فليكن يهيا ههه.
كانت إنسانة طيبة. وكنا كثيرًا ما نتجاذب أطراف الأحاديث بعد الفصل، حتى انعقدت بيننا الأواصر، فلما انتهى الفصل الدراسي دعتني إلى الغداء عرفانًا بالجميل.
وهذا درس أوجهه لأبنائي الطلاب: قدّر تتقدر تكسب محبة الناس.
المهم يا سادة يا كرام، وما يحلى الكلام إلا بذكر النبي عليه الصلاة والسلام، وصلت إلى المطعم وجلست مع المدعوين الآخرين، فإذا منهم إنسان لطيف الشمائل، سرعان ما اكتشفت أنه طيب القلب إلى حد يثير الأحزان ويستخرج الدمع من محاجر العيون. كانت طيبته من النوع الذي يستثير في الإنسان الشفقة والعواطف النبيلة. كان في طيبته الساذجة أشبه ما يكون بفتيات الليل في الأدب الروسي. حتى لقد وددت لو أخذته بالأحضان وقلت له: كل شيء سوف يصير على ما يرام يا صغيري! وأعطيته ٧ جني لكي يروح بلدهم.
ومن محاسن الصدف وعجائب القدر وطلائع الجيش أن هذا الشخص ذو أصول مصرية، واتفق له أن زار مصر إبان الثورة. حكى لي بعيون فرحانة وسعادة ساذجة عما رآه في مصر. روح الميدان والمحبة بين الناس. كلنا واحد، والجيش والشعب يد واحدة وقوتنا في لمتنا. قطّع قلبي. قال إنه اطمأن على مصر وإن المستقبل لنا. كان في تفائله أقرب إلى النشوة، مع أنّ هذه الحكاية التي أقصها عليكم قد وقعت بعد سنوات من انتهاء الثورة وأيلولتها إلى صندوق العدم. لكنني فهمت من كلامه أنه لم يقرأ سطرًا واحدًا عن مصر بعد ٢٠١١.
أمر لا يكاد يصدق. زار هذا الإنسان مصر في أحلى أسبوعين في تاريخها، والتقط صورًا في الميدان مع العلم، ثم قرر أن يشد خطًا ويضع كلمة النهاية ويركب الطائرة العائدة إلى أمريكا. انتهى التاريخ بنهاية رحلته وتحولت مصر إلى لوحة فنية لبشر سعداء في ميدان التحرير. خرج المصريون في ثورة واتحدوا وأسقطوا الظالم وأقاموا دولة مبنية على الحب وانتهت القصة نهاية سعيدة فانتصر الخير على الشر وعاشوا في تبات ونبات وخلفوا صبيان وبنات. شيء مذهل والله العظيم.
في حياتي لم أر مثيلاً لهذه الضلالات التي حكاها لي هذا الإنسان. يا خي حتى النبات لم يعد موجودًا! هذا هو نعيم الجهل كما ينبغي أن يكون.
كان صدري يغلي غليان بيت الماء في الأرجيلة، لكنني، في لحظة من النبل والتسامي، قررت أن أبلع كلماتي. أثرت فيّ طيبة هذا الإنسان وآراؤه الخالية من التكلف والافتعال، والمبنية على إيمان صادق شبيه بإيمان أطفال نيسابور. قلت لنفسي: إن تحطيم صورته الذهنية وذكرياته الطيبة عن مصر الميدان، عمل غير مفيد ولا يستحق أن أزعج بسببه إنسانًا طيب القلب.
أنهيت النقاش بابتسامة ودود وبعض الكليشيهات أكدت فيها اتفاقي معه في أنّ الوحدة خير من جليس السوء والاتحاد سيد البلد. وتلقى الحاضرون كلامي بالقبول وانتهت الأمسية على خير، وتفرقنا إلى غير رجعة وعدت إلى بلادي وإن جارت عليّ، ثم سافرت ثم عدت ثم سافرت ثم عدت، وجرت في النهر مياه كثيرة، وقضيت أيامًا وليالي أعض أصابع الندم، حتى صارت أصابعي ألين من أصابع السجق، لكنني لم أندم قط على عدم إزعاجي هذا الإنسان الطيب الودود، وإن كنت ندمت على أنني لم أكسر الفيزا وأعمل على عربية كبده في نيويورك.
وكلما ساءت الأمور في وطني حبيبي الوطن الأكبر، فكرت في أنَّ هناك، في مكان ما من أرض الله الواسعة، إنسان رأى مصر في أحلى أوقاتها، وقفز من السفينة قبل أن تغرق وسافر أمريكا وتوقف به الزمان عند ٢٠١١ وأغلق منافذ الوعي بعدها.
سوف يقضي هذا الإنسان بقية عمره مبسوطًا من تلك الذكرى وذلك لأنّ إنسانًا آخر، لن تذكره كتب التاريخ والحوليات، قرر في لحظة تسامح وتحت تأثير ضوء شمس العصاري، ألا يفسد سعادته وأن يحمل عنه الآلام ويعاني في صمت ويجني الشوك لوحده.

المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  9455