| ألست التي..؟محمود محمد شاكر | شعرتاريخ النشر: 2024/12/12 اقرأ للكاتب |
بلى، كنتِ في قلبي سراجًا يضيئه فيفترُّ عن أنواره كلُّ جانب
وكنتِ حياة للحياة تُمدها بأفراحها في عابسات المصائب
وكنت ليَ البَرَّ الوديع إذا غلَت بأمواجها وادَّافعت بالمناكب
وكنت نسيمًا واللظى يَنشِف اللظى ويترك ظلَّ الدوح ظلَّ اللواهب
وكنتِ ملاذي والشئونُ كأنها من الدمع ينبوع يجيش بغارب
وكنت إذا ما العين مدَّت هيامها إليك تلقَّتها أحَنُّ الترائب
وكنت كأنفاس الرياض عبيرُها على الفاقد المحزون فرحة آئب
بلى كنت، كنت السحر تبدو صدوره من الخير تخفي منه شر العواقب
أرى الحية الرقطاء أجملَ منظرًا وألين مسًّا من ثُديِّ الكواعب
إذا ما تراءتها العيون بريئة من الخوف خالتها دعابةَ لاعب
تَدانى إلى اللاهي دُنوَّ مقارب فيدنو ويدني كفه كالمداعب
ألا ارفع يدًا واذهب بنفسك رهبة فمن حسنها نابٌ شديد المعاطب
بلى كنتِ إذ عيني عليها غشاوة وإذ أتردى في سواد الغياهب
وأخرى على عين البصيرة خيَّلت لنفسي هداها بالأماني الكواذب
أُرى من تكاذيب الخيال كأنني إلى جنة الفردوس أحدو ركائبي
أغني لآمالي لأبلغ غايتي وأدرك لذاتي وأجني مطالبي
وما ذاك إلا راحة القلب بالهوى وبالود في عيش شديد المتاعب
وأن أرد الماء الزلال ولم أَرِدْ -وقد عشت دهرًا- غير رنق المشارب
ألا فاعلمي أني ظمئت وأنني تجنبت جهدي الماء جمَّ الشوائب
فجئتك ظمآنًا يموت بغُلة فأغريت بي الغُلَّات من كل جانب
لقد كنتُ خِلوًا أنتحي حيث أشتهي وأرضى وآبى مُقدِمًا غير هائب
تسهّل لي الصعب الأبيَّ عزيمتي ويكفُل لي صدقي قضاءَ مآربي
وأرمي بنفسي في المهالك باسمًا لأنفُذ منها باسمًا غير خائب
فوا حزنا أضللتُ عزمي وهمتي وأيتمت أفكاري وضيعت واجبي
تخشعت تحت الحب والوجد والجوى وطولِ اضطرابي في الهموم الغوالب
أَذَلَّ شبابي الحبُّ حتى رأيتُني أمرُّ بأترابي مرور المجانب
وأحسدهم مما لقيت وإنني لأخشى عليهم محنتي وتجاربي
ألا ويحها كم بتُّ أرقب طيفها وكم سهرت عيني نجيَّ الكواكب
وكم طُفت بالبيداء أطلب خلوة وأرسل طرفي في ضلال المذاهب
أمثِّلها حتى أكاد أمسُّها وألقي إليها ما تضم جوانبي
وأشتاقها والبحر بيني وبينها وبيدٌ تعاوت بالرياح الغواضب
فلما التقينا ضمَّنا الشوق والهوى وكان حديثَ الوصل صمتُ الرغائب
ولكن رمت بيني وبينك بعده ضريبةُ أنثى وهي شر الضرائب
فأطلقتِ في إثري الضواري مُجِدَّة تُعان على أنيابها بالمخالب
تمزقني ألحاظها وعيونها كأنيَ أُرمَى بالسهام الصوائب
يفزِّعني ظلي إذا ما لمحته وقد غالني رعبي وسُدَّت مهاربي
فما كدت أنجو بالحُشاشة بعدما تلقيت من حبيك شر النواكب
ألا لا تقولي كيف كنتِ فإنني أرى كل أنثى شرها غير غائب
ترومين مني الودَّ بقيا على الذي مضى؟ خاب فألي أن أُرى غير ثائب
ترومين مني الود؟ تلك عجيبة وأسعى لذبحي؟ تلك أم العجائب
تشهَّيتِ لحمًا؟ فات ما تشتهينه فلم يبق من لحمي طعام لساغب
تملَّيتُ هذا البغض حتى رأيتُني أربِّب حيَّاتي وأغذو عقاربي
فإن يك بغضي كلَّ ذنب جنيتُه إليك فإني لست منه بتائب
وكيف وقد أنهكتني وعرقتني وقُدت على قلبي جيوش النوائب
ذريني، ولكن الحياة مليئة بكن، فما في الأرض منجى لهارب
المصدر: ديوان اعصفي يا رياح نشرت في مجلة الرسالة 11/1/1937م |
|