| الوصاية الفكرية الغربيةشريف محمد جابر | مقالةتاريخ النشر: 2024/12/21 اقرأ للكاتب |
من أجمل المشاهد التي رأيتها عند أهلنا في سوريا في الأيام الماضية ذلك الرفض الصريح لمخرّجات مؤتمر العقبة وتنفيذ قرار مجلس الأمن 2254. قالوا: نحن قادرون على بناء دولتنا الجديدة بغير وصاية غربية. وهي عبارة جوهرية تدلّ على العزّة والكرامة التي تقوم عليها الدول، وخصوصا في مثل هذه اللحظات التأسيسية. لكنّ المؤسف في المشهد السوري والعربي عمومًا: عدم الوعي بخطورة "الوصاية الفكرية" الغربية، فإذا كنا نرفض أن يتدخّل الغربيون بمراقبيهم وجيوشهم في بلادنا، كما لو كنّا أطفالا غير راشدين نحتاج إلى من يرشدنا من مبعوثي الأمم الضالّة، فكيف نقبل بأخذ وصفاتهم السياسية بكامل عيوبها؟ وأتحدث هنا عن تبني نظام سياسي واقتصادي على النموذج الغربي تماما. تراودني الحرقة نفسها التي تراود ذلك الرافض للوصاية الغربية عبر مجلس الأمن والأمم المتحدة، حين أرى مسلمين لهم إرثهم التشريعي والحضاري العريق لا يرون نظامًا صالحًا في سوريا إلا أن يكون نموذجًا غربيّا، فهم يتحدّثون عن نظام سياسي بسلطاته الثلاث، حيث يختار الشعب من يمثّلهم ليشكّلوا حكومة (كما في النظم البرلمانية) وليشرّعوا القوانين الجديدة، إلى جانب اقتصاد السوق الحرّة (دعه يعمل دعه يمر) ردّا على الانغلاق وتدخّل الدولة الذي مارسه النظام في عقود سابقة. المشكلة أنّ هذه الوصفة مجرّبة في السابق، وأثبتت فشلها لأنّ هذه الأنظمة نشأت وتطوّرت في بيئة ملائمة لها، وفُرضت علينا فرضًا من الأعلى في مرحلة الاستعمار وما بعده، وأدّت إلى حكومات ضعيفة متقلّبة ومفكّكة، وإلى إبراز ثغرات يصعد من خلالها الاستبداد. إنّ الاستقرار الحاصل لهذه النظم الديمقراطية في الغرب الأوروبي وأمريكا ناتج عن وجود قيم رديفة له، أبرزها: حسم صراع الهوية، وهو صراع لم يُحسم في بلادنا العربية بسبب تغوّل الأفكار العلمانية التي تتبنّاها شرائح فاعلة ومدعومة غربيا. فنحتاج إلى أدوات ووسائل من ديننا وحضارتنا لمنع نشأة الحكومات الضعيفة المتقلّبة ولمنع صعود الاستبداد مجدّدا. وأقول لكم عن دراسة طويلة: إنني أرى الحلّ في الشريعة كما أرى الأشياء القريبة حولي وكما أحسّها، أكاد ألمسه واقعًا متجسّدا لولا أنّ قومنا في هذا العالم العربي مصابون بخوف وتوجّس من مثل هذا المسار. ولا شكّ أنه مسار صعب، ولكنّ الذي قاوم جيشا مجرما (الأسد) تدعمه قوة إقليمية متغطرسة (إيران) وقوة دولية جبّارة (روسيا) لنحو 14 عامًا وصبر على اللأواء والعذابات والدمار كيف يهيمن عليه الرعب والارتعاد من فرض عقوبات لو لم يمض على الوصفة الغربية لشكل النظام السياسي والاقتصادي؟! هذا لا يعني الاستغناء عن الذكاء الدبلوماسي، ولا يعني تقديم تصريحات استفزازية، ولا إيجاد الذرائع للتدخل الغربي واستمرار العقوبات على البلاد.. ولكنه يعني أنّ مثل هذه اللحظة التاريخية لا بد فيها من حسم قضية الشريعة لصالح الغالبية المسلمة التي تؤمن بها في البلاد، حتى لو كلّف ذلك بعض التضييق، فليست كل حسابات بناء البلد متعلّقة بـ "كيف سينظرون إلينا"؟ أو "هل سيسكت النظام الدولي"؟ ثمة حسابات أخرى أولها إرضاء الله عزّ وجلّ، وهو مفتاح للتوفيق والبركة في الدنيا. فاليد المرتعشة التي يهيمن على صاحبها الخوف من ردود الأفعال الدولية والإقليمية ستظلّ تقدّم التنازلات إلى أن تتخلّى عن هويّتها ومشروعها، ويصبح النظام القائم عائقًا أمام تماسك البلد وقوته، فتكون النتيجة على المدى القريب أو البعيد هي تحقق ما كان يخشاه المتخوّف من القوى الدولية، وهو فشل المشروع وعودة الاستبداد أو الضعف والتفكك. أما اليد الثابتة، فمع جهودها الدبلوماسية وذكائها الإعلامي تحتفظ بهويّتها وتُفهم العالم كله أن ثمة خطوطًا حمراء لا يمكن التخلي عنها، وأنّ الذي لنا أولى بالمراعاة من الذي لكم. الشريعة هي وحدها القادرة على حفظ حقوق الأقليات كما أثبتت عبر قرون، ولا نحتاج إلى توصيات الذين ينزعجون من الأقليات في بلدانهم وأقاموا لهم المذابح قبل أقل من قرن! الشريعة هي وحدها القادرة على منع عودة الاستبداد، بما تتّسم به من انضباط وجدية في التشريع يمنع "ترزية القوانين" التي يمارسها المستبدّون. الشريعة هي وحدها التي تجلب البركة في المال بما فيها من حظر للربا والاحتكار والغرر وبيع ما لا يملك وسائر أحكام الأموال. وقبل كل شيء، فالشريعة هي وحدها التي تضمن البركات كما أخبرنا الله في كتابه، فمن يبحث عن المسرّات الاقتصادية بعد حصار وعقوبات عليه أن يدرك أن المطلوب ليس المسرّات المادية بذاتها بل البركات، والفرق أنّ المسرّات قد تأتي ولا ترضى الشعوب ولا تشبع لأنّها فقدت بوصلتها الإيمانية ولهثت خلف الرخاء الاقتصادي الذي وعدت به الحكومة، فتسخط عند كل تعثّر، لكن البركة تجلب الرضا إلى قلوب النّاس ولو عاشت باليسير، ولو كان تقدّمها الاقتصادي بطيئا معتدلا. فالذي ينبغي لكل حكومة راشدة أن تُجنّب الشعوب "الضنك"، والتنمية والتقدّم مطلوبان بشدّة، لكنهما لن يُجنّبا الشعوب الضنك، فلا ينبغي أن يكونا على حساب التفريط بالأسس الراشدة التي تجلب البركة. وتنمية بطيئة متّزنة مع شيء من الكفاح والثبات على الهوية والمنطلقات الحضارية، أفضل مليون مرة من التنمية السريعة التي تأتي نتيجةً للتخلّي عن المنطلقات الحضارية والمضيّ في الوصفات الغربية! |
|