الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

أوباري: مزارع الوُدِّ والحنين

المكّي أحمد المستجير

رحلة

تاريخ النشر: 2025/01/01
اقرأ للكاتب
حطَّت بنا الطائرة في مطار أوباري، المُفتَتح حديثًا، فإذا البشاشةُ وإقراءُ السلامِ لا تغادر عينك ولا أذنك. التفتُّ إلى رفيقي في الرحلة، ونحن ننتظر حقائبَنا، وقلتُ له: إنِّي أجدُ مرارةَ فِراق أوباري وأهلِها، قبل أن أدخلها وأعرف ناسَها. إنَّنا أمام زيارةٍ لن تُمحى -إن شاء الله- من ذاكرتِنا أبدا، ولو باغتتها النِّساوَة.

[أوباري مدينة السَّلام والنَّماء]

أوباري؛ آخرُ مدينةٍ في "وادي الآجال" الـمُمتدِّ من بلدة الأبيض. تبعد أوباري عن سبها -عاصمة الجنوب الغربيِّ- زُهاء 170 كم غربا. وحدودُ الجزائر أقربُ إليها من وادي الشاطي. وتاريخيًّا شكَّلت مُربَّعًا تجاريًّا حيويًّا، مع سبها، ومرزق، وغات.
أوباري؛ مدينةٌ كثيفة السُكَّان إن قُورِنت بجاراتِها. غنيَّةُ الثروات، عَذبة المياه، مُتنوِّعةُ الأعراقِ، والأرومات. وعندما توحَّدت البلاد إبَّان المملكة الليبيَّة الرّاشدة -بعد إلغاء النظام الفيدراليِّ عام 1963م- كانت أوباري إحدى المحافظات العشر للدولة الموحَّدة. ولو كان أهلُ الحَلِّ والعَقد اليوم، من أهل النظر والجِدِّ، لما تحدَّثوا عن 3 أقاليم متفرَّقة، بل عن عشر محافظات مُتكاملة، لا أكثر ولا أقلَّ.
لا أذكرُ في عمري أنِّي رددتُ السَّلامَ بهذه الكثرة، كما رددتُه في أوباري. أنَّى اتَّجهتَ يضحك بوجهك الأطفال، ويبتسم لك الناس، يطرحُون لك قلوبَهم وِطاءً، ويُجبرونك -رغم أنفك- على محبَّتهم، وألفتهم. يحرصُ جميعهم على إفشاء السلام، وقد جدَّدوا للكلمة في قلبي بهاءها ومعناها. ولم أجد أحدًا منهم -على مخالطتي لمن أعرف ومن لا أعرف- يُقحم نفسَه في شأنِك، أو يسألك عن أمرك، وفصيلتك، وسبب زيارتك.
وإن كنتَ تعجبُ لهذا الوُدِّ العجيب، والتجانس البديع في المدينةِ، فإنَّك من الحرب الضروس التي استعرت بينهم (2014-2015م) أعجب. فكيف لهؤلاء الأوِدَّاء أن يستحيلوا أعداءً ألِدَّةً؛ فيستحِلُّوا كلَّ شيء لفتك بعضهم بعضا؟ هذه المفارقةُ ستفتح لك بابًا من البصيرة، فتفهمَ أنَّها كانت حربًا بالوكالة، جُلُّ وقودها غرباءٌ مجنَّدون، وتمويلها مِن الساسة الـمُتكالبين على السلطةِ في الشمال، وهمُ اليوم على الكراسي مُتقابلين، يسرقون ويضحكون. وأظنُّ -والله أعلم- أنَّ الدرسَ وعاهُ أهلُها وسكَّانُها، حفظهم الله من شرِّ الشمال.
لم أتجوَّل بالمدينة كثيرا، لضغط العمل، وبأسِ الصقيع، لكنِّي لاحظتُ في كل الشوارعِ والبيوتِ التي مررتُ بها؛ أنَّ مساكنَ أهل أوباري مؤثَّثة بالزرع، والأشجار، والزهور. لم أجد بيتًا إلا وفي فِنائه أشجارٌ تحيِّيكَ من فوق الأسوار. من بينها: المانجا، التي تبدو شعارا محليًّا، ودِثارا للفِناءات. ولولا وَقارٌ فرضته الغربة، وإباءٌ وطَّنته التنشئة؛ لطرقتُ باب المنزل المقابلِ لسكني، وخيَّرته بين أن يُعليَ أسوارَه، أو يُطعِمَ جارَه.
في الليلةِ الأولى، طرق بابَنا مُضيفُنا السيِّد "سليم بن ميلوت" ومعه قصعة ذهبيَّة بغِطاءٍ مُقبَّب، أسفرت حين أسفرت عن بهاء في صورة عَشاء، وهي وجبة "الفتات" بلحم حُوار لم يُفطَم. لم أكُ جائعًا، إذ العذابُ قطعةٌ من السفر، لكنِّي لمَّا ذقته، وجدتُه من أشهى ما أكلتُ، ولم أطعم مثله في حياتي، إلا فتات أهلِ الجديد بسبها، قبل 12 عاما، وما زالَ طعمُه الهنيُّ في فمي إلى اليوم. وإنَّه فُراتٌ لا فُتات.

[وادي الآجال وليس وادي الحياة]

عند مرورنا بأحياء المدينة، لاحظتُ لافتةً كُتِب عليها "وادي الحياة" وهو اسم زائفٌ غير دقيق، يجب أن يُمحى ويُنسى.
اسم الوادي الصحيح هو "وادي الآجال" نسبةً إلى نوع من البَقَر الوحشيِّ (يُعرف نوعه العلميُّ اليوم باسم: الظِّباء الأيليَّة) استوطن الوادي قرونا، إلى وقتٍ قريب. لكنَّ القذافي في بواكير زياراته للوادي، خطب بحماسةٍ، قائلا: "إنَّ هذا الوادي بعد ثورة الفاتح أصبح وادي الحياة وليسَ وادي الآجال" ظنًّا منه أنَّ الآجال تعني الموت (جمع أَجَل).
وقد تعجَّبتُ -كثيرا- من بقاء هذا الاسم الخاطئ في عهد القذافي وبعده، إذ معنى الاسم الصحيح يعلمه أهل فزَّان جميعُهم، وليس فقط أهل أوباري، والعاقل يدري أنَّ الوادي في تاريخِه كلِّه -القريب والبعيد- كان عامرًا بالمياه والحياة، فكيف يوصف بالموت؟ وقلتُ: لعلَّ مَن حول القذّافيِّ تهيَّبوا مِن تصحيح فهمه خوفًا من بطشه، أو أنَّه علم بخطئه، ومنعه كبره من الرجوع إلى الصواب.
وأيًّا كان، فلا مبرِّر اليوم، لكتابة "وادي الحياة" الذي ينسف تاريخًا تالدًا للوادي، ويمحو وثيقةً شفهيَّةً هامَّة لوجود هذا النوع الحيوانيِّ، باسم زائف، لا مصداقَ له، ولا تاريخ. فانتبهوا، ولا تتهاونوا؛ واحذفوه؛ من الأوراق الرسميَّة، واللافتات، ولا يصح إلا الصحيح.

[أوباري؛ كوني بردًا وسلامًا]

السَّلامُ والوُدُّ في أوباري لا يُعكِّره إلا صقيعُها القارس القاسي. صقيعٌ مُباغتٌ، لم أشهد له مثيلا. حين تكون الشمسُ في السماء، يدغدغك دِفؤها، فلا تجد للصقيع إلا أثرًا خجولًا، كأنَّه اِمرأة في خِدرها. وفورَ أن تغيب الشمس أو تحتجبَ، ولو ظلًّا مررتَ به؛ يفجَعُك بردٌ قريس، ويفجؤك تدنٍ شديد في الحرارة، لا يترك لك فرصة لفهم ما جرى:
بردٌ؛ لَوَ اْنَّ الوَرَى جاءتْ تُبايعُني * على الخلافةِ؛ لم أقدِرْ أمُدَّ يدا

ولولا بروتينٌ شاردٌ في جيناتي؛ ورِثته مِن أسلافي عيت بوسعيدة في "القعرة" مدفونٌ في أعماق سِحنتي الدرناويَّة؛ أعانني على الصمود، واحتمالِ القَرِّ والصَرِّ؛ لكنتُ الآن مومياء أخرى في أوباري. صمودي الاستثنائيُّ تعجَّب له مُضيفُنا "سليم بن ميلوت" ولا سيَّما في الليلة الثالثة، وهو يُشاهدني في عُنفوان نشاطي، بينما رفيقي مُتَيَبِّسٌ في السيَّارةِ، كالعرجون القديم. فقال لي مُمازِحًا: "شكلك خذيت مناعة من صقعنا بسرعة، يا دكتور".

[التجربة الأوباريَّة]

هذه زيارتي الأولى لمدينة أوباري، والظنُّ -إن شاء الله- أنَّها لن تكون الأخيرة. بقيت بها 3 ليالٍ زاهرات. أطَّرنا فيها 3 حلقاتٍ دراسيَّةٍ (أي: ورش العمل على اللغةِ العرنجيَّة) كانت عن: التثقيف الصحي، وتدريب الأجهزة الرقابيَّة والتنفيذيَّة على معرفة الاشتراطات الصحية، والتصحُّر، والترشيد الاجتماعي.
عُقِدت الحلقاتُ الدراسيَّة بالتعاون مع البلديَّة، وكليَّة التربية والعلوم. وكنتُ أشرتُ على عميدها وطلبة قسم الاجتماع بها، أن يدرسوا تجربة المصالحة في أوباري، دراسة أكاديميَّة، توثقها، وتنقدها، وتستخلص نتايجها. في ظنّي؛ أنَّ تجربة أوباري في المصالحة وتفكيك النزاع، جديرةٌ بالدراسةِ، وتصلح أن تكونَ أنموذجا عالميًّا، يُشار إليه، ويُهتدى به، والله أعلم.
كنتُ في هذه الحلقات الدراسيَّةِ رِفقة رجلٍ متفانٍ في العطاء، لا يُسفِرُ السفرُ معه إلا عن حلو شمايله، وجميل خصاله. هو صاحب رؤيةٍ ومشروع، يحاول جاهدًا نشر أفكار مشروعه وأركانه، وهو سليل أسرةٍ علميَّةٍ رائدة في ليبيا، صديقي: د.فوزي بن طالب. والدُه من الأكفياء الذين قامت عليهم وزارة الصحَّة بعد الاستقلال. وعمُّه من المناضلين الشرفاء، فما باعَ ولا انحنى.

[بذورٌ ليس لها ساقي]

للأسفِ، لا توجدُ معالم على الحياة الثقافيَّة بالمدينة، لا توجد مكتبةٌ، ولا نوادٍ للقراءة ومناقشةِ الكتب، ولا أمسيَّاتٌ أدبيَّة. وتوجدُ بها كُليَّتان وحسب؛ إحداهما: كليَّة للتربية والعلوم، تتبع جامعة سبها، والأخرى: كليَّة للقانون تتبع الجامعة الأسمريَّة.
ثمَّةَ في الكليَّات براعمُ أدبٍ، لم أجد صعوبةً في التعرُّف إليها، ترنو إلى قناةٍ لاحتضانها وتشجيعها، ولو كانت إذاعة محليَّة، التي أغلقت -هي الأخرى- أبوابها منذ سنوات. لو كنتُ أملك شيئا من أمر [بعض] زوايا فزَّانَ الصوفيَّةِ، المشتغلةِ بالفلكلور، لجعلتُ العملَ الثقافيَّ؛ وِردَهم ورِفدَهم، فهذا واجب الوقت، زمانا ومكانا.
كيف لا تكون الزوايا الصوفيَّة في وادي الآجال مَنارة إشعاعٍ ثقافيٍّ؛ وبين جَنَباته كان الشيخ عبد القادر بن مسعود (الفجيجي) القادريُّ طريقةً (على مِنهاج مُجدِّدها في ليبيا، شيخه: سيدي علي أمين سيَّالة) يصدح بواجب الوقت، مجاهدا بالسيف نهارا وبالقلم ليلا. كذلك الشَّيخ محمد كاوصن (السنوسيُّ طريقةً) يدُكُّ الحامية الإيطاليَّة، ويُذِلُّها على مشارف المدينة، وفي جيبه مفاتيح قلعةِ مرزق.
ولماذا نذهب بعيدًا، ففي قلب أوباري، ها هي زاوية الشيخ الحُسيني بن مومن، المدنيِّ الشاذليِّ طريقة؛ ببنائها الفريد، منارةٌ -على مرِّ تاريخها- للعلم والثقافة والإصلاح. الصوفي عندنا ابن وقته، والتصوُّف -في منهجنا- تعظيمُ واجب الوقت، فافهمْ واجبَ وقتِك تغنم، واترُكْ طبلك وأمسكِ بالقلم.

[حنين الأصل إلى الفرع]

في صبيحةِ اليوم الأخير من زيارتنا، زُرنا مُدرَّج أوباري الكبير، بكليَّة التربية والعلوم. كان مُمتلئا على آخره لمؤتمرٍ علمي، يُعقد للعام الثاني تواليًا. راقني تنظيمه، وتحيةُ العلم والنشيد، والمباركة بعيد الاستقلال. تجد في هذا الحدثِ هيبة دولةٍ منشودة.
ها نحنُ نتأهَّبُ للعودة إلى مُدننا، وفي النفسِ ألمٌ من وداع أوباري إلا صقيعها. لم نظفر بكراسيَّ على رِحْلات أوباري وسبها إلى طرابلس، ولم أعُد أطيق فراق بُنيَّتي، ودفء احتضانها. تحدَّثتُ مع رفيقي، فوجدتُ من شوقه لبُنيَّاته وبارود فِراقهم، مثل شوقي وبارودي. فعزمنا على الرجوع برًّا، ففعلنا، على 12 ساعة متَّصلة، في جوٍّ ممطر، ورفيق حُسامٍ حَسَن. وتلك قصَّة أخرى، ليوم آخر.

(الجزء الثاني -والأخير- من المقالة سيكون عن المعالم الدينيَّة بمدينة أوباري).
27 من شهر جُمادى الآخرة لعام 1446هـ
المكِّي المستجير

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  9536