الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

حديث الأحزان

محمد خليل الزَّرُّوق

مقالة

تاريخ النشر: 2025/01/11
اقرأ للكاتب
طالما قلت: كثير من الحب كثير من الحزن، أي على قدر كثرة الحب تكون كثرة الحزن، لكأنما الحزن هو المجازاة القدرية على صبوة النفس إلى المحبوبات. نعم إن محبوبنا الأول هو الله. وإذا كان الأمر كذلك فإننا نحب كل شيء فيه وله، لأننا نظن أن هذا المحبوب قريب منه أو يقرب إليه أو يعين على طاعته أو وسيلة إلى مرضاته، فنحب العالم والمتعلم والداعية والمجاهد، ونحب الأخ في الله، والزوجة الصالحة، والابن البار، ونحب العلم والتعلم، ونحب الكتب والمساجد ومجالس الذكر، ونحب اللغة والأدب، ونحب النصر والظفر، ونحب العزة والقوة.

ولكنها الدنيا الدنية، دار البلاء والتنغيص والفقد، لا تترك شيئًا محبوبًا إلا نقصته أو نغصته أو أذهبته، نحزن على النقص والفقد والقلة، ونحزن على أننا لم ندرك كل مطلوباتنا.

نعم نعم، لأننا مخلوقون للآخرة، مخلوقون للأبد، لعيش ليس فيه نصب ولا وصب، هناك حيث لا خوف ولا حزن ولا ألم، وعدنا به، ونتطلع إليه.

ولكننا الآن في هذه الدار، وقد جبلنا على حب خيرها ونفعها، وقد ذقنا حلاوتها ولذتها، وابتلينا بها، فنجاهد ألا تفتننا عن غايتنا، وأن نستمتع بالحلال الطيب فيها، وهيهات أن تدوم على حال، أو أن تنيل طالبًا كل ما يطلب.

وما الحزن؟ إنه ألم في النفس، حيث لا جلْد ولا عظم ولا عضو، هو يدرك ولا يوصف، ويوجد ولا يرى، ويحس ولا يمس، له أمارات من غصة تخنق، وعبرة تسكب، وشرود في الذهن، وزهد في الكلام والأكل والناس، ووخز في الصدر كأنه الإبر.

أحب نبينا صلى الله عليه مكة بلده وفارقها، وقال: إنك أحب بلاد الله إلي، وأحب خديجة زوجه، وقال: رزقت حبها، فجعل الحب رزقًا مسوقًا، وكتابًا مكتوبًا، وماتت رضي الله عنها، ولم يزل يذكرها ويكرم صاحباتها، وأحب عمه وقد حماه ودفع عنه، فمات لم يؤمن بدعوته ولم يسلم كما حرص وأحب، وأحب عمه حمزة أسد الله، فاختاره الله شهيدًا في أحد، وكأني به يقول حزينًا لما سمع بكاء نساء الأنصار: ولكن حمزة لا بواكي له، وأحب ابنه إبراهيم فكان قدر الله أن يموت صبيًّا، وكل أبنائه صلى الله عليه ماتوا صغارا، وقال فيه قولته المشهورة إسوة المحزونين وتعزية المكلومين: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولما جاءه خبر مقتل حِبه زيد وابن عمه جعفر وشاعره ابن رواحة في مؤتة جلس يعرف فيه الحزن.

وأحب زوجه البكر الصغيرة المدللة عائشة، وقد تزوج صلى الله عليه الصغيرة والكبيرة، والتي تكبره بسنين كثيرة، والتي يكبرها بسنين كثيرة، وبنى بعائشة في المدينة وهي بنت تسع سنين، وهو في نحو الثالثة والخمسين، وحفظ العهد، ورعى الود، ولم يقل إلا حقًّا، ولم يحكم إلا عدلا، فكان محبًّا مثاليًّا بتعبيرنا، وأسوة في كل شيء، في حبه وحزنه وبكائه، فحزن ودمعت عينه وحزبته الأمور، وآلمته الجراح، بنفسي هو وأهلي ومالي، صلى الله عليه، ولما سئل: أي الناس أحب إليك؟ لم يخطر بباله إلا عائشة، فقال: عائشة، وكان السائل يريد الرجال، فلما سأله قال: أبوها، سماها باسمها في مجمع من الرجال، فلم يكونوا يتكلفون تكلفنا، ولا يتزمتون تزمتنا، ولا يكدرون الصافي، ولا يعسرون اليسير. ثم ابتلاه الله وابتلاها بحديث الإفك، فكان هذا البلاء الناصب لأطهر زوجين وأخلص علاقة وأنبل محبة، ابتلوا شهرًا من الحزن، لا ترقأ دمعة، ولا تهجع عين، حتى جاء الفرج والمخرج من الله، وبرأ الحصان الرزان العفيفة، وسُري عن رسول الله وحبيبه، بعد بلاء جهيد، وألم أليم في أحب أزواجه وأعز أهله.

إننا في الحب نصل المحبوب بنفوسنا حتى يلتحم بها، ويصير بعضًا منها، فيشق علينا كل المشقة أن نفصل بعض نفوسنا عنا، وأن يبين بعضنا منا، يؤلمنا اليأس بعد الرجاء، والوحشة بعد الأنس، والفراغ بعد الامتلاء، والغياب بعد الحضور، والفقد بعد الوجدان، إنه كالبتر في الأجساد، نجعل هذا المحبوب بعضًا منا فتأتي الأقدار تفصله عنا، وتبعدنا عنه، لتقول لنا: إن هذه الدار هي دار الآلام والفقدان والنقص، فاستغنوا بالله، واسألوه من فضله.

أكثر ما جاء الحزن في القرآن منفيًّا أو منهيًّا عنه أو مسلًّى عنه. نموذح الحزن في القرآن نبي الله يعقوب، حزن حتى عميت عيناه، وقال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، كان الأنبياء أشد الناس بلاء في دار البلاء، فلم ييأس من روح الله، ولم يقنط من رحمة الله، وبعد سنين من الحزن فرج الله كربته، وآنس وحشته، وجمع شمله، وأقر عينه، على سنته سبحانه في الفرج بعد الشدة، وفي اليسر بعد العسر.

كل حزن جديد يذكر بالقديم، يجمع الأحزان القديمة في وعاء معتقة خاثرة أشد ما تكون مرارة، وأوقع ما تكون ألـمًا، يتجرعها الحزين جرعة بعد جرعة، ويقول هذه كتلك، بل أشد من تلك، ألم تر إلى يعقوب لما أُخذ ابنه الثاني قال: يا أسفا على يوسف! فالشجا يبعث الشجا، والبكى يجر البكى، والأحزان تجدد الأحزان.

كتبت مقالة في رثاء والدي، كلما قرأتها بكيت، وإذا شرعت في قراءتها قلت قد طال الزمن ولن يحدث شيء هذه المرة، فيخيب ظني وتدمع عيني.

فاللهم أذهب عنا الحزن، وآنس وحشتنا بك، واحفظ أحبتنا بحفظك، وسلِّ نفوسنا بذكرك، وسُدَّ خلتنا بفضلك، وأقر أعيننا برزقك، واجبر خواطرنا برحمتك، واكتب لنا الخير حيث كان، وأرضنا بقسمتك، واجمع أنفسنا المفرقة، واشف جراحنا المشققة، والأم قلوبنا الممزقة، لا إله إلا أنت.

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  1784