 | في معيَّة العلَمِ المحقق (حمزة أبو فارس)صهيب بن خيال | مقالةتاريخ النشر: 2025/04/12 اقرأ للكاتب |
ذكرني هاتفي المحمول هذه الليلة بصورة مع شيخنا العلامة الفقيه حمزة أبو فارس كانت في نهاية موسمنا الرمضاني قبل الماضي في برنامج فتاوى على الهواء على شاشة ليبيا الأحرار، وأدرج الأخ الفضيل وليد المختار منشورًا مرفقًا بصور لزوار مكتبته العامرة دار الوليد بالعاصمة طرابلس وفيه صور لزيارة الشيخ لمكتبته في رمضانين متواليين وقد رافقته فيهما. فبعث ذلك في خاطري ذكريات أيام رمضانية رائقة رفقة شيخنا الفضيل، وذكرني بحرصه على زيارة المكتبات عند كل سانحة، وتتبُّع أخبار الكُتُب وآخر إصداراتها، والحرص على اقتنائها، حتى إنه يجعل زيارته للمكتبات برنامجًا ثابتًا حيث حلَّ وارتحل. والشيخ من نعم الله علينا في هذا الزمان، وقد رأيت من حُسن سمته وشدة التزامه، وجميل أخلاقه الشيء الكثير، فهو ممن لا تزيدك مخالطته إلا توقيرًا وإجلالاً. وهو ممن عرف بالعلم والفقه وسعة الاطلاع وشدَّة حرصه على النفع والانتفاع، غير أن الجانب الأخلاقي والإنساني عنده مما يخفى على كثير من الناس. فهو من الموطَّئين أكنافًا، المتواضعين للناس، الذين لا يُخالج الاغترار قلوبهم، ولا الزهو أفئدتهم، لا يتردد في مدح من يراه مُستحقًا للمدح من أقرانه ومن هم دونه، فكثيرًا ما تسمع منه: "فلان ما فيش زيه في علم كذا وكذا" "وهذه فائدة استفدتها من فلان رغم أني بحثت عنها سنوات ولم أعثر على جواب لها"، بل هو يزهو ويفرح بمن ينتقده أو يتعقَّبُه في مسألة أو يُصحِّحُ له خطأً، أذكر أنه أفتى في مسألة من المسائل برأي ضعيف في المذهب، فذكرت له قوله عند خروجنا من الحلقة، وأنه قال فيها بالمنع، وأنا أظن أنني وقفت عليها في مشهور المذهب مكروهة، فأطرق يفكر في المسألة، وفي اليوم التالي سلَّم علي وقال: "القيتها المسألة صح هي مكروهة عندهم، توا نصلحوها اليوم"! وهو مع هذا التواضع لا يتردد في نقد من يراه أخطأ خطأً علمياً، أو التصحيح لمن جانبه الصواب في مسألة، ثم هو يؤكد على روح التآخي وسلامة الصدر رغم الخلاف، فيُشير إلى أنه التقى به وتحدثا طويلاً أو أنهما يتزاوران وبينهما صُحبة وألفة، وأذكر أننا ذكرنا قولاً عنده لأحد الناس فلم يُعجبه وردَّ عليه، فسألته بعد ذلك عن علاقته به فقال لي: "علاقتي بيه كويسة أنا ما عنديش مشكلة شخصية مع حد يا أستاذ صهيب" أخبرته مرةً أنني أتممتُ كتابة رسالة الماجسيتر، وأنه يسعدني أن يطلع عليها ويُدوِّن عليها ملاحظاته، فأجابني بقوله: "ربَّك يستر"، وهي من اصطلاحاته التي تدُلُّ على الموافقة المبدئية، ثم سهوتُ عن إرسالها له فهاتفني بعد يومين، "ما جاتنيش رسالتك يا سيِّد" فأرسلتها له، وبعد سبعة أيام أو أقل هاتفني أنه أتمّ قراءتها ودوَّن عليها ملاحظات، وأنه ينتظر زيارتي ليُناقشني في هذه الملاحظات، وقد ضمَّت ملحوظات ومقترحات نافعة ماتعة، مع أسئلة عن المقصد من بعض الكلمات. ومن الطرائف أنني نقلت نصًا عن القاضي عبد الوهاب، وفيه خطأ من المحقق في النسخة المطبوعة، فتنبَّه له وأنها ليست عبارة القاضي وإنما هي تصحيف وكتب عليها بقلمه قد يكون صوابه كذا، ونقلت نقلاً عن كتاب التحرير والتحبير في شرح الرسالة للفاكهاني من كتاب آخر؛ لأنني لم أظفر بنسخة لكتاب الفاكهاني ولم يكن موجوداً على الإنترنت، فبحث الشيخ عن الموضع من كتاب الفاكهاني، وكتب لي رقم الجزء والصفحة وجاءني بالنسخة لأتحقق من النقل بنفسي، على الرغم من أن الشيخ لا يرى رأي الفاكهاني في المسألة مُعتبرًا. والشيخ على مكانته وهيبته، من أشدِّ الناس تواضعًا وتركًا للتكلُّف، وحرصًا على الوقت، ومُحافظة على التزاماته، حتى إن عادته إذا لم يؤكِّد على موعد درس أو لقاء فالموعد مؤكَّد؛ لأنه لا يتخلَّف إلا بعد اعتذار سابق. وهو من أشدِّ الناس حرصًا على وقته ووقت غيره، كنت إذا تواعدنا على وقت وتأخرتُ عنه دقائق معدودة أجده جالساً على عتبة البيت ينتظرني، وإن زادت الدقائق تمشَّى نحو الطريق الذي آتي منه، فإن زاد التأخُّر فلا بُدَّ من عتابٍ لطيف "عطلت هلبا اليوم". للشيخ مواقف إنسانية تدل على تواضعه ورفعته وعظم نفسه، وصفاء قلبه، وتقديره لكل من له معه صحبة، ولو كان من أصغر تلامذته أو أقلّ طُلابه، زارنا الوالد يومًا في طرابلس، وصلينا في المسجد الذي يصلي فيه الشيخ لنُسلِّم عليه، وكان من عادة النَّاس أن يتحلقوا حوله يسألونه بعد الصلاة وهو جالس، فطال انتظارنا له فاقتحمت عليه حلقته وسلمت عليه، مُعرِّفًا بالوالد فقطع الشيخ كلامه مع جُلَّاسه والتفت إليه بكُليَّتِه، ورحب به كثيرًا وأوسع له مجلسًا بجواره، ثُم دعانا لزيارته والغداء عنده، وأكرمنا لأجله أيما إكرام. وهو من أورع الناس إذا طُلب منه رأي، لا سيما إذا ظن أن شيئًا غُيِّب عليه أو حُجِب عنه، وكم من مسائل سياسية واجتماعية وفكرية يُطلب رأيه فيها فيُحجم، وإن كلَّمته عن تفاصيلها قال: "الأمور هذين ما يخفى فيهن كثير"، "كم من ناس يجوني من مكانات بعيدة في مثل هذه المسائل ما ياخذوا مني كلمة"، "ما انحطش في رقبتي حد" ونظائر ذلك من كلامه كثير. وقد شهدتُ له أضعاف هذه المواقف مما يدل على فضله و حسن خلقه وزكاء نفسه. نسأل الله أن يُطيل عمره في طاعة وصحة، ويُمتعنا به وينفعنا بعلمه وسمته، ويُسبِغ عليه ثوب العافية إنه وليُّ ذلك والقادر عليه. |
|