الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

معركة

يحيى أحمد محمود

قصة

تاريخ النشر: 2023/08/17
اقرأ للكاتب
كانت لي جارة بيضاء كشق اللفت شقراء كسنابل القمح.

كنت ألقاها بين الحين والآخر في الصالة المخصصة للطلاب فنتبادل التحيات والسلامات يا حبيبنا يا بلديات. لكنّ علاقتنا لم تتجاوز قط الأحاديث السطحية مثل حالة الجو ودرجات الحرارة واتجاه الرياح. كانت علاقة طقسية إن جاز التعبير. فلم يحدث، مثلاً، ولا مرة، أن تزوجنا وأنجبنا طفلاً يرث جمالها وذكائي.

ومن العجائب، والعجائب جمة، أنّها كانت تساكن شابًا من ألطخ الناس، كان فظًا غليظ القلب تبدو على محياه سيماء الشراسة والجنون. وكان انطباعي عنه بادي الرأي أنه يشبه مطلقي النار العشوائيين، ماس شوترز، وهي ظاهرة أمريكية غريبة (وأظن أنه ينبغي البحث عن أسباب وجود هذه الظاهرة في أمريكا دون سواها، مع أن الأسلحة موجودة والأجزاء مشدودة في كل مكان في العالم).

وكان يحلو لهذا الشخص أن يمشي بين الناس عاري الجذع. ولا أخفيكم أنني كنت أرى هذا التصرف بالغ الوقاحة والشقاحة، أنا الذي كنت كثيرًا ما أذاكر في صالة الطلاب مرتديًا جلابيتي البلدي التي فصلتها في محل في الجيزة، متخصص في حياكة الجلاليب البلدي، اسمه “أزياء باريس”، فكان منظرنا يجسد الهوة بين الشرق والغرب، ويدل على أنّ الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا، كما قال الشاعر الإنكليزي روديارد كبلنغ.

وفي يوم من الأيام كنت أتمشى في الحرم الجامعي. وقد كنت في تلك الأيام الخوالي أتمشى ساعتين وأحيانًا ثلاث ساعات، أهيم على وجهي كيفما اتفق، فإذا ما صادفت شجرة نمت تحتها ثم أكملت المسيرة ولا أعود إلى بيتي إلا بعد غروب الشمس.

وفي ذلك اليوم كنت ماشيًا على الرصيف، وهناك، في آخر الرصيف، أبصرت هذا الشخص قادمًا تجاهي عاري الجذع يمشي في الأرض مرحًا ويطوح ذراعيه كأنّ الله لم يخلق سواه.

تبادلنا النظرات واستقرت في أذهاننا فكرة واحدة: ينبغي لأحدنا أن يخلي الطريق ليمر الآخر، ولن يكون هذا التنحي لدواعي اللياقة واللباقة وتهذيب الحواشي، بل سيكون المتنحي أقلنا ذكورة وخصوبة. هكذا، بصريح العبارة.

شوفوا، أنتم لا تعرفونني، لكنني إنسان بسيط. أكاد أكون زاهدًا. لقمة صغيورة تكفيني وعش العصفورة يقضيني. لا أحب النزاع والشقاق. إذا الإنسان كف الشر عني، فسقيا في البلاد له ورعيا. ويدرس إن أراد كتاب موسى، ويضمر إن أحب ولاء شعيا. وقد كان دأبي وديدني، في مثل هاتيك المواقف، أن أتخلى عن مكاني دون غضاضة. فالأرض أرض الله والناس عباد الله، والذي رزقني على هذا الرصيف والدولار بخمسة جنيهات، سيرزقني لو تركت الرصيف والدولار بأربعين جنيها.

لكنني في ذلك اليوم قرأت على صفحة وجه هذا الشاب عنادًا وعتوًا واستكبارًا في الأرض وعرفت أنه لن يتنازل أبدًا. نظر لي بشراسة ومد رقبته يتحداني ثم زاد في سرعته لا يلوي على شيء، خخخخخخ وكأنني لا أستطيع أنا أيضَا ألا ألوي على شيء. لا يا خواجه. أنت لا تعرفني. وإني لحلو إن أريدت حلاوتي، ومر إذا نفس العزوف استمرت.

آآآآآه. عندما رأيته يمشي مسرعًا كقطار ٦ إلا تلت جن جنوني. غلت الدماء في عروقي فامتلأ وجهي بالبثور والثآليل. وقررت في تلك اللحظة أن أموت دفاعًا عن حقي في عدم النزول عن هذا الرصيف لذاك المستعمر الباغي. لا تنازل ولا تفاوض مع هذه الأشكال. إذا جاءني من يطلب الجهل عامدًا، فإني سأعطيه الذي جاء يطلب.

نعم. كنت مستعدًا حينها أن أبذل روحي فداء لهذا المكعب من الأسمنت. ولا غرو، ذلك أنّ الذي كان على المحك، في تلك الأمسية من أمسيات شهر يونيو/ حزيران، لم يكن رصيفًا تافها، بل رجولتي وشرفي وعروبتي وذكوريتي السامة.

بدأت هذه اللحظة، في واقع الأمر، منذ قرون، منذ دخلت سنابك خيل الفرنسيين إلى الجامع الأزهر. كانت تلك اللحظة، في جوهرها، ذروة صراع بين الشرق والغرب، بين الكرامة الوطنية و غطرسة الكولونيالية الإمبريالية، بين العروبة والغروبة، صراع المواطن الأسمر مع الرجل الأبيض. صراع عمر المختار مع بينيتو موسوليني لكن على نطاق أضيق ومن دون جاذبية أنتوني كوين. بل إنني لا أكون مبالغًا إن قلت إنه كان صراعًا بين الحق والباطل (أو أكون مبالغًا قليلاً بنسبة مبالغة لا تتعدى ١٧٪).

كان هذا الرصيف يا سادة رمزًا، أيقونة، وكانت تلك لحظة مفصلية. انطلقنا في تلك المواجهة ولم ينزل أحدنا من الرصيف، فتدافعنا وارتطمت أكتافنا بخشونة، ثم نظر أحدنا للآخر نظرات ملؤها العداوة والبغضاء والشنآن. ثم تفرقنا كل في سبيله.

ولأنني بعد تلك الحادثة، توقعت الغدر والانتقام من سفاح الأرصفة هذا، فقد بقيت حذرًا مدة بقائي في الولايات المتحدة. أنام بإحدى مقلتي وأتقي، عدوًا بأخرى فأنا يقظان نائم. كنت أغير أماكن نومي باستمرار، فمرة أنام على جنبي الأيمن ومرة أنام على جنبي الأيسر.

ومهما يكن من أمر، فقد أحدثت تلك الواقعة شرخًا في علاقتي بالرجل الأبيض، لكنها لم تؤثر قط على علاقتي بالمرأة البيضاء. فبقينا نتناقش في حالة الطقس والمنخفضات الجوية ومعدلات هطول الأمطار ودرجات الحرارة العظمى والصغرى، إلى أن فرّق الدهر بيننا، إلى الأمدِ الأقصى.. ومن يأمنِ الدهرا!

المصدر صفحة الكاتب على الفيسبوك

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  8078