| خبر نادر عتيق الديباجةالرقيم | قصةتاريخ النشر: 2023/09/06 اقرأ للكاتب |
هذا الخبر جاء في التذكرة الحمدونية 2/111، ورواه صاعد في الفصوص 2/175 بإسناده، غير أنه في التذكرة أمثل لفظًا، وأحكم سياقة، وكأن ما زيد فيه من الشعر في الفصوص مقحم عليه، وقد أصلحت فيه بعض الإصلاح فيما أظن، وأما غريبه فتجد في حواشي الكتابين بعض فَسْره. وهو من الندرة بمكان، ومن الفصاحة وقِدَم الديباجة بمنزلة لا تخفى على المعنيّ بهذا النمط.
حدَّث أبو الهيثم الرجَبي من حِمْير: كان رجل من ذي مَنَاخ، وهم بطن من ذي كَلَاع، يقال له: جميم بن معدي كرب، جوادًا فأشفى جوده على ماله، فتدارأت بطون من ذي الكلاع في أمواه لهم، وكانت بينهم دماء، ثم تداعوا إلى الصلح وتعاقُل الدماء وأن يُبيئوا الدم بالدم، ويؤدّوا ما فضل، ففضلت إحدى الطائفتين بسبع ديات فحملها جميم، فسعى في عشيرته فتدافعوه، فأدّى ديتين فاستوعبتا ماله، فخرج ضاربًا في الأرض حتى أوغل في مفاوز اليمن. قال أبو الهيثم: فحدثني شيخان منّا ممن أدركه وسمع حديثه من فِلْق فيه، قال: بينا أنا ذات عشيّة في بعض تلك الأغفال أوائل الليل إذ حَبَا لي نَشء فألبس الأفق، فهمهم وتهزَّم، وأطلّت أعاليه وتلاحقت تواليه، وبرق فخطف، ورعد فرجف، وأشرفتُ على الهلاك، وإني مع ذلك لسخيٌّ بنفسي أودّ لو هلكت لأعذر، والنفس مجبولة على طلب النجاة، فمِلْت لأقرب الجبال مني لأعتصم بلَجَأ منه، فلما سَنَدت في سفحه عرض لي غار غامض، فأطمأننت إليه، فإذا نار كالمصباح تخبو تارة وتضيء أخرى، واحتفل السحاب وشَرِيَ المطر، فاندفعت في الغار فأنخت في أدناه، فإذا نار في لَوْذ منه، فعقلت مطيتي وأخذت سيفي وولجت، لكني هجمت على شويخ يوقد نويرة وبين يديه حمار قد قيَّده ونبذ له أضغاثًا فقلت: عِمْ ظلامًا، فقال: نَعِم ظلامك، من أنت؟ فقلت: خابط ضلال، ومعتسف أغفال، فقال: أعافٍ أم باغ؟ فقلت: بل راكب خِطَار، وخائض غِمَار، تؤدِّي إلى بَوَار، فقال: إنّك لتنبئ عن شرّ، ليُفْرِخْ رَوْعُك، اجلس وخفِّض عليك وتطامن، فلما اطمأننت قال: قرّب مطيّتك واحطُط رحلها، واعضِد لها من أغصان السَّمُر المتهدل على فجوة هذا الغار، ففعلت، ثم أقبلت إليه فجلست، فاستنبث رمادًا إلى جانب موقده فاختفى خبزةً فلطمها بيده حتى أبرز عن صميمها، وقرّب صَحْفة له، فكسر الخبزة فيها واستخرج نـِحْيًا من خُرْج إلى جانبه فنَكَب على الخبزة سمنًا حتى سغبلها، ثم قرّبها مني فأكلت وأكل حتى انتهيت وأتى على ما فيها، ثم اضطجع وقال لي: نم آمنًا واثقًا بأنّك غير مؤرَّق ولا محقق [كذا وهو تحريف لم أعرف صوابه]، فاضطجعت، وطَبَن من ناره، واستوثق من عقال حماره، وقال لي: أرِّبْ عقال مطيتك، ففعلت، وبتّ ناعم البال، وكأن الأين قد وقذني فغلبتني عيناي هزيعًا من الليل، ثم أزعج الخوف النوم وأتتني هَمَاهم ولم آمن اغتيال الرجل، ثم ضربت بجِرْوتي ثم قلت: واثكل أمَّاه! ما هذا الوهَل؟! والله إنه لأعزل وإني لمستلئم، وإنه لـمُتَسَعْسِع وإن فيَّ لبقية شباب. فلما أحسَّ بالصبح استيقظ فأرّث نارًا وشبَّها وقال: أنائم أنت؟ فقلت: بل كَميعُ أرَق، وضجيع قلق، قال: ولم؟ وقد تقدم مني ما سمعت وأنا به زعيم؟ وفي كل ذلك لا يسألني عن نسبي، ثم استخرج مزودًا فيه طِحْن، فقمت لأتكلَّف ذلك عنه، فقال: اقعد فإنك ضيف، وإنه للؤم بالرجل أن يمتهن ضيفه، فاعتجن طحنه في جفنته وكفأ عليها صحفته، ثم مال إلى جانب من الغار فاحتمل أضغاثًا من يبيس فألقاها لحماره، ثم استخرج مِعْضَدا من تحت وساده، وخرج إلى فم الغار فخطرف ما استطفَّ له من الشجر والسَّلَم فألقاه لناقتي، وجلس يحادثني ويفاكهني ويناشدني الأشعار المؤسِّية، ويصف لي صروف الأيام وتقلبها بالرجال، فكأنه كان في نفسي أو قد بطَنَ أمري، فلما ظن أن خبزته قد آنت استخرجها، ثم فعل كفعله أول الليل، فلما صددت أتى على باقي الخبزة، ثم قام فخرج من الغار، ثم رجع فقال: قد تقطع أقران الحَفْل وطَحَرت الريح الجَفْل، ووضح الحَزْن من السّهل، فقم فارحل. ثم قذف رحالته على حماره، وقمت فارتحلت، وخرج وخرجت أتبعه حتى دلكت الشمس أو كربت، ثم أشرفنا على واد عظيم شجير، وإذا نَعَم ما ظننت أن الأرض تحمل مثله، فهبط الوادي وتصايحت الرِّعاء وأقبلوا إليه من كل أوب حتى حفّوا به، وسار في بطن الوادي حتى انتهى إلى قباب متطابنة، فمال إلى أعظمها فنزل، وتباعد الأعبد فحطُّوا رحلي وقادوا مطيتي وألقوا إلي مثالًا، وقال: نم ليتسبَّخَ لُغُوبك، فنمت آمنا مطمئنًا حتى تروَّيت، ثم هببت وإذا عبد موكّل بِيَهْ، فقال لي: انهض إن أردت المذهب، فقمت وقام معي بإداوة حتى أولجني خَمَرًا وأدبر عني، فلما أحسَّ بفراغي أقبل فحمل الإداوة وردّني إلى مثالي، وإذا الشيخ قد أقبل ومعه عبدان يحملان جفنتين، فقلت: والله ما بي إلى الطعام من حاجة، فقال: لا بدّ منه، فلما فرغنا من غدائنا قال: هات الآن خبرك، فأخبرته، فقال لبعض عبيده: أوف ذلك النَّدَّ فألمعْ بَـنِـيَّ، [فكان] ما [قال]، [فـ] إذا عجاجة مستطيرة، وإذا عشرون فارسًا تنكدر بهم خيولهم وقفوا عليه، فأمرهم بالنزول فنزلوا واقتصّ عليهم قصتي، وقال: ما عندكم لابن عمكم؟ قالوا: مرنا بأمرك، فقال: خمس ديات يؤديها، وثنتان شروى ما رُزِئه، فو الله ما أمسيت حتى أنيخت بفنائه، ورجع بنوه، وبتُّ بأنعم مبيت، فلما أصبح قال لعبيده: عليَّ عشرةً يوردون هذا الابل بلاد هذا الرجل، ثم هُمْ له، إن شاء أعتق وإن شاء أرَقَّ، فانتَدب له عشرة كالذئاب فوقفوا بين يديه، فقال لعبد آخر: هلمَّ ما قِبَلك، فما راث أن جاء بمائة كالهضاب، قال: وهذه لك من لدني، وارحل راشدًا إلى أرض قومك، فقلت له: يا ابن عمّ إنه للؤم أن تقلِّدني مثل هذه المنّة ولا أعرف لك اسمًا ولا نسبًا، قال: أنا مَحْمِيَة بن الأدرع أحد بني هِزَّان. |
|