الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

العبور من وادي درنة

محمد خليل الزَّرُّوق

مقالة

تاريخ النشر: 2023/09/26
اقرأ للكاتب
كأنه عَتَب عليَّ صديق أني لم أكتب شيئًا في شأن الكائنة التي نزلت بالجبل الأخضر ودرنة، فقلت له: إن المصيبة فوق الكلام، قد عقدت الألسنة، وأذهلت العقول، واختلط فيها المعزِّي بالمعزَّى، والمرثيُّ بالراثي، والمبكيُّ بالباكي، وكلنا ينتظر من يعزيه ويواسيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

قد كثر في هذه الواقعة وغيرها اللغو وفضول القول، وما أحواجنا في أمثالها إلى الصمت إلا من ذكر الله والموعظة الحسنة، وإلا من كلمات الصبر والتسليم، وكل الناس يحفظ: "فليقل خيرًا أو ليصمت"، وقليل فاعله، حتى صار الكلام أكثر من العمل، وغرقنا في طوفان من اللغو، على هؤلاء القنوات والصفحات، وأطل علينا كل من يملك هاتفًا من الهواتف، وحسابًا على المواقع، وفرصة في القنوات، ببيان ومحاضرة وخطبة، أقله حسن وسديد، وأكثره رديء وفيما لا يفيد. لا لوم على المظلوم أن يجهر بمظلمته، وأن يشتد في قوله، كما قال الله: ﴿لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم﴾، بل واجب الناس جميعًا أن ينكروا المظالم، وأن يأخذوا على يد الظالم.

إن مثل فاجعة درنة حَريَّة أن تنقلنا -أو تعبُر بنا- من اللغو واللغَط إلى الصمت وقول السداد. إن الصمت في الحوادث فرصة للاعتبار والاتعاظ، وبرهة للتفكر والتدبر، ولهدوء النفس من الضوضاء والضجيج، ولبعد القلب عن الاشتغال بالجدل والخصومات، وللاشتغال بواجب الوقت، وخاصة النفس. وذلك خلق منسي وفضيلة متروكة في أيام الناس هذه، إذ صار في مكنة كل إنسان أن يكون مؤسسة إعلامية تتحدث في كل حدث، وتشارك في كل شأن، وتجيب في كل سؤال، وتحكم في كل قضية. وقد حكوا أنه قال رجل لعمر بن عبد العزيز: متى أتكلم؟ قال: إذا اشتهيتَ الصمت، قال: فمتى أصمت؟ قال: إذا اشتهيت الكلام! والكلام شهوة تكُبُّ على المناخر، وتجر إلى المعاطب.

وكثيرًا ما يُشغل الناس بالمتصدِّر من القضايا، وبأجزاء منها، أو أوجه منها، بحسب ما ينساق إليه الجمهور في مواقع التواصل، وما تسايره به القنوات، وينسون وجوهًا أخرى من الحادثة، وأجزاء أخرى من القضية، فهذه كارثة الجبل كانت "درنة الزاهرة" "مرقد الصحابة" فاجعتها، وكان فيها أكثر آثارها إيلامًا، وأشدُّها وطئًا، وأبْيَنُها بلاء، إذ أخذ السيل نحو ثلث المدينة، وهو قلبها الحي، وحيُّها العتيق، فجرف أحياء برمتها، ومساكن وعمارات بأهلها، وذهب بأُسَر فلم يبق منها أحدًا، أو لم يبق إلا قليلًا ممن كتب الله له النجاة، ورمى أناسًا في البحر، بعضهم في سياراتهم، أو دفنهم تحت الطين أو تحت ركام المباني، فارتقى الآلاف شهداء -نحسبهم- والذين بقوا أحياء عانوا آلام الفقد، وهول المصيبة، ثم عانوا البحث عن الأحبة، والقيام بشئونهم من التغسيل والدفن، على كثرة الموت، وغياب المعين، في أوائل الساعات، ثم تقطُّع السبل، وتهدم البيوت، وقلة المئونة، وتلوث الماء، وانقطاع الاتصال والكهرباء. وكل ذلك كاد يُنسي أخوات درنة من مجاوراتها، كالبيضاء والبياضة وسوسة والوردية وقندولة، ففي كل مدينة أو قرية في الجبل مصاب في الأنفس أو الأموال من جراء السيول، وأناس يتلهفون إلى إغاثة، أو يفتقرون إلى معونة، أو يتطلعون إلى مواساة.

وقد استخرجتْ هذه الكائنة معاني الإيمان ودفائن اليقين من قلوب أهلنا، وأجرت على ألسنتهم كلمات التسليم وعبارات الرضى بقضاء الله، فلم أسمع من المصابين في أهليهم وأقربائهم وأصدقائهم وأرزاقهم إلا قولهم: "لا نقول إلا ما يرضي ربنا"، وقولهم: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، وقولهم: "الحمد لله"، بل الـمَشاهد التي نَقلت شيئًا من وقائع الحادثة في ظلمة الليل، وهجوم السيل، وشدة المحنة، واقتراب الموت، لم يُسمع فيها إلا التكبير والتشهُّد والدعاء، وأنهم يذكِّر بعضهم بعضًا، ويوصي بعضهم بعضًا بذكر الله ودعائه واللجوء إليه. وكذلك المحن تستخرج ما في القلوب من معاني الإيمان، وتظهر حقائق الفطرة، وما أسعد الذي كان ذاكرًا داعيًا في حال الرخاء والسعة! وفي الحديث: "تَعَرَّفْ إليه في الرخاء يعرفك في الشدة".

وسمعت بعض الناس ينكر نسبة الحادثة إلى الله، ويقول: إن الله لا يكرهكم حتى يفعل بكم ذلك، فهو خطأ بشري! وهذا من الجهل بضروريات الدين، فإن الإيمان بالقدر من أركان الإيمان، فكل ما كان ويكون بعلمه وإذنه تعالى من خير أو شر، كما قال: ﴿قل كلٌّ من عند الله﴾، وقال في المصائب خاصة: ﴿ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم﴾، وانظر إلى قوله: ﴿ومن يؤمن بالله يهد قلبه﴾، وهو ما يُنزله الله على قلب المؤمن من الرضى والتسليم والبصيرة في معاني الأقدار، وقال: ﴿ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور﴾، فأخبرنا أن تعليمنا ذلك يدفع عنا انفعال النفس البالغ بالحزن أو الفرح.

ثم هو مع ذلك أرحم الراحمين، بل أرحم بالناس من أنفسهم ومن آبائهم وأمهاتهم، وقد أخبرنا في كتابه بما يحب وما لا يحب، فهو لا يحب المعتدين، ولا يحب الكافرين، ولا يحب الظالمين، ولا يحب المفسدين، ولا يحب المسرفين، ولا يحب الخائنين، ولا يحب المستكبرين، ولا يحب الفرحين، ولا يحب الفساد، ولا يحب كل كفار أثيم، ولا يحب من كان مختالًا فخورًا، ولا يحب من كان خوانًا أثيمًا، ولا يحب كل خوان كفور، ويحب المحسنين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب المتقين، ويحب الصابرين، ويحب المتوكلين، ويحب المقسطين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفًّا كأنهم بنيان مرصوص، ويحب الذين يتبعون رسوله ﷺ، وأخبرنا أنه يعاقب ويعذب في الدنيا والآخرة، وقال لنا: ﴿ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرًا عليمًا﴾، فأخبرنا بما يصرف العذاب عنا، وذلك أن نؤمن به، ونشكر له.

إن أمثال هذه المحن تعرِّف الإنسان قدره، وتريه ضعفه، فهو هذا الضعيف الذي تغلبه الريح، ويغرقه الماء، ويقتله الداء، وإن غرَّته القوة بالنفس أو المال أو العلم أو الجمع، وتعرِّفه قدر الدنيا التي يغتر بها ويطمئن بها، وتكون كل همه، ومبلغ علمه، فتأتي الحوادث فتعرِّفه هوانها وغرورها، وتريه زوالها واضمحلالها، وتعلِّمه أنها مخلوقة لتكون ممرًّا إلى دار أخرى، ومقدمة لحياة الخلود، ومزرعة لحصاد العمل.

ولا يخفى على الخبير بنصوص الشرع أن البلاء ينزل بالطائع والعاصي، وبالمؤمن والكافر، وأن الله يبلو بالخير والشر، وكثيرًا ما تلا الناس في هذه المحنة: ﴿ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين﴾، وهي الآيات التي مدحت الصابرين ووصفتهم بالمهتدين، وذكرت قولهم في المصائب، فلقَّنت هذا القول للمؤمنين، وبشَّرت بجزائهم، وهو الصلوات من الله والرحمة، وأعظِمْ به من جزاء! وهي آيات في خطاب المؤمنين، وسبقتها آيات الأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة، والنهي عن أن نقول للشهداء: أموات.

وعلَّمنا رسولنا ﷺ أن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وأن ما يصيب المؤمن من نصَب ولا همٍّ ولا حزن إلا كفَّر الله به خطيئاته، حتى الشوكةُ يشاكها، وأنه لا يزال البلاء بالمؤمن في جسده وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة، وأنه من يرد الله به خيرًا يصب منه، أي بالبلاء، وأنه إذا أحب الله قومًا ابتلاهم، وأن أمر المؤمن كلَّه خير، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له، وأن عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وفي الحديث القدسي في البخاري: "ما لعبدي المؤمن جزاءٌ إذا قبضت صَفِيَّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة"، وفي حديث الصحيحين، وهذا اللفظ لمسلم: "مثَل المؤمن كمثَل الزرع لا تزال الريح تُـميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثَل المنافق كمثل شجرة الأَرْز، لا تهتز حتى تَسْتَحْصِد".

ولذلك يجب أن نفهم أن للبلاء وجوهًا كثيرة، ويصيب ألوانًا من الناس في الواقعة الواحدة، فيكون تكفيرًا للذنب، ورفعة لقوم، وعقوبة ونكالًا لقوم، وتخويفًا لقوم، وعبرة لقوم، ويكون له ما بعده من آثار، وهلم جرًّا، فليس للقدر وجه واحد، ولا يُستطاع الإحاطة بحكمة الله فيما قضى وقدَّر، وليس للمؤمن إلا التسليم والرضى، وإلا الإيقان بحكمة الله وعدله ورحمته وفضله، وفي حديث عائشة رضي الله عنها في البخاري أنها سألت الرسول ﷺ عن الطاعون فأخبرها "أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابرًا محتسبًا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد"، فأخبر أنه عذاب ورحمة في آن واحد، وأن الموت به مع الصبر والاحتساب شهادة للمؤمن، وفي حديث الصحيحين: "الشهداء خمسة: ‌المطعون والمبطون والغرِق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله".

وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، وإذا التمسنا هذا المعنى في القرآن الكريم وجدناه، فإنه ذكر في التعقيب على غزوة أُحُد أسبابًا شتى لما قدَّره الله على المسلمين في تلك الغزوة، فهو (1) مداولة للأيام بين الناس، وكذلك سُنَّته سبحانه وتعالى في الأمم والأقوام (2) وهو تحقيق للإيمان في الواقع، كما رأينا في محنة درنة (3) وهو اتخاذ للشهداء يصطفيهم الله بعلمه ورحمته، كذلك (4) وتمحيص للمؤمنين، أي تطهير، ومحق للكافرين، أي إذهاب لمن مات منهم واستئصال (5) وتحقيق للجهاد مع الصبر في الواقع من العمل لا بالتمني والقول (6) وإراءة للموت رأي العين، فقد كانوا يتمنون الشهادة، فأراهم الله أن الأمر في حال غيابه ليس هو في حال حضوره (7) وبيانٌ للمزية العظيمة لمكان الرسول ﷺ بينهم، عليهم أن يغتنموها (8) وأنه ميت وأنهم ميتون، فليَثبُتوا على الإيمان بعده مستمسكين بما كان عليه، وما علَّمهم وأوصاهم به (9) وأن ذلك سُنَّة الأنبياء وأتباعهم، فكثير منهم كان معه الرِّبِّــيُّون، أي المنتسبون إلى ربهم سبحانه لا إلى شيء غيره، يعملون بما أمر يرجون ما عنده، من الذين يصيبهم ما يصيبهم في سبيل الله فلا يَهِنُون ولا يضعفون ولا يستكينون، ولا يجري على ألسنتهم إلا أن يسألوا الله المغفرة والثبات والنصر (10) وإظهار لجهات الضعف فيهم إذ فشلوا وتنازعوا وعصوا، وأراد بعضهم الدنيا (11) وتدريب لهم على ألا يحزنوا على ما فاتهم ولا ما أصابهم (12) وإظهار للمنافقين وأخلاقهم وأفعالهم وأقوالهم، من الذين يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، ويُخفون في أنفسهم ما لا يبدون (13) وتعليم لهم أن المعاصي تُزِلُّ الأقدام، وتُقْدِر عليهم الشيطان (14) وأن ما أصابهم كان من عند أنفسهم (15) وأنه تمييز للخبيث من الطيب في الناس والنيات والأفعال والأقوال.

فانظر إلى هذه المعاني المحتشدة في بلاء غزوة أحد ساقها القرآن سياقًا واحدًا بيانًا وهدًى وموعظة، وتعليمًا لسنة الله في الأقوام، وانظرها في محنة درنة والجبل فستجد أكثرها، واتل إن شئت الآيات من سورة آل عمران، من قوله: ﴿قد خلت من قبلكم سُنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين. هذا بيان للناس وهدًى وموعظة للمتقين. ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين﴾، من ههنا إلى قوله في أواخر السورة: ﴿لتُبْلَوُنَّ في أموالكم وأنفسكم﴾، وذلك نحو خمسين آية عقَّبت على هذا المصاب، ففصَّلت المعاني، وتتبعَتْ كل فعل، أو خطرة في النفس، أو قولة في السر، وكل حدث وحديث، وكل صنف من الناس، ففصَّلت ذلك تفصيلًا، وعلَّمته للمؤمنين تعليمًا، فسبحان من أنزل كتابه تبيانًا لكل شيء! وقد عرض بعض الناس قطعة من صفحة من المصحف من آثار سيل درنة، فيها أول هذه الآيات التي ذكرتُ معانيها.

وإذا كان البلاء ينزل بالمؤمنين والطائعين، وإذا كان تكفيرًا وتطهيرًا للمؤمنين، فإن الله علمهم أن يلوموا أنفسهم، وأن كل ما يصيب الناس من سيئة إنما هو من عند أنفسهم، وهذا معنى شائع في القرآن مكرر في آياته، ففي هذه السورة: ﴿أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم﴾، قال هذا للصحابة، وفي السورة التي بعدها سورة النساء: ﴿ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك﴾ قال هذا لرسوله ﷺ، فهو من النفس تسبيبًا، وهو من الله تقديرًا، لأنه قال قبل ذلك: ﴿وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كلٌّ من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا﴾، وفي سورة الشورى: ﴿وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير﴾، يُقرأ هكذا بلا فاء على الجملة الاسمية، وبالفاء: ﴿فبما كسبت أيديكم﴾ على الجملة الشرطية، فالمصائب تتعلق بكسب الأيدي تعلق الخبر وتعلق الشرط، وتعلقُ الشرط أشد في ارتباط الأمرين، وفي سورة الروم: ﴿ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون﴾، فذكر حكمة سنته هذه، وهي إذاقة آثار بعض العمل عسى أن يردهم ذلك إلى رشدهم، ويقلعوا عن معصية ربهم.

والآيات في هذا المعنى كثيرة: ﴿فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم﴾، ﴿وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون﴾، ﴿وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور﴾، ﴿كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته﴾، ﴿وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون﴾، وقال في شأن أصحاب الجنة الذين منعوا عطاءها وهم مؤمنون: ﴿كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون﴾.

وهذا المعنى أيضًا شائع في القرآن، وهو أن الله يعذب في الدنيا قبل الآخرة، وهو أيضًا يثيب في الدنيا قبل الآخرة، نحو قوله في سورة المائدة: ﴿ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم﴾، وقوله في سورة الأعراف: ﴿ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض﴾، وقوله في سورة يونس: ﴿فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين﴾، وقوله في سورة هود: ﴿وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله﴾، وقوله فيها على لسان هود: ﴿ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارًا ويزدكم قوة إلى قوتكم﴾، وقوله في سورة إبراهيم: ﴿وإذ تأذَّن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم﴾، وقوله في سورة النحل: ﴿من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة﴾، وقوله في سورة النور: ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا﴾، وقوله في سورة الجن: ﴿وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقًا﴾.

فالمؤمن لوَّام لنفسه، رجَّاع عليها باللائمة والتقويم فيما يصيبه من شر وضر، ولذلك كانت النفس اللوامة ممدوحة، لأن في اللوم تقويمًا واستدراكًا وإصلاحًا، وقد قال آدم وزوجه: ﴿ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين﴾، وقال يوسف: ﴿وما أبرئ نفسي﴾، وقال موسي: ﴿رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي﴾، وقال يونس: ﴿لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين﴾، وقال سليمان: ﴿رب اغفر لي وهب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي﴾، وقال أيوب: ﴿إني مسني الشيطان بنصب وعذاب﴾، وقال في شأن داود: ﴿وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعًا وأناب﴾، وقال نبينا ﷺ في دعاء استفتاح الصلاة: "ظلمت نفسي واعترفت بذنبي"، كما في صحيح مسلم، وعلَّم صاحبه أبا بكر رضي الله عنه أن يقول في دعائه: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم"، كما في الصحيحين. فهؤلاء الأنبياء والصديقون أزكى الناس وأتقاهم، يستغفرون من ذنوبهم، ويوقنون أن ما أصابهم إنما كان من عند أنفسهم.

وفي حديث الصحيحين أيضًا: "كان النبي ﷺ، إذا رأى مَخِيلة [سحابة يُخال فيها المطر] في السماء، أقبل وأدبر، ودخل وخرج، وتغير وجهه، فإذا أمطرت السماء سُرِّي عنه، فعرَّفته عائشة ذلك، فقال النبي ﷺ: ما أدري لعله كما قال قوم: ﴿فلما رأوه عارضًا مستقبل أوديتهم﴾"، يقول رسول الله ﷺ هذا خائفًا غير آمن من مكر الله، على أن الله تعالى قد قال له: ﴿وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم﴾، ولكنه خُلُقُه العظيم في التواضع وهضم النفس، والعلم بمقام العبد من مقام الرب، وأن حق ربنا سبحانه وتعالى فوق ما يعمل الناس، ويظن الناس.

وقد سمعتُ أحد الناجين من الكارثة في درنة -واسمه صلاح سالم سلطان- بعد أن شرح كيف أنجاه الله وأهله من الغرق في تسجيل على مواقع التواصل يقول: "نصيحة أعطيها لكل مسلم لوجه الله، والله رأينا العجب! [يقصد من رحمة الله]... اجتنبوا الكبائر، واجتنبوا الربا والزنا وقول الزور، والله ما نحن فيه سببه هذه الأمور، الربا والزنا والفواحش ما ظهر منها وما بطن".

وليس معنى ذلك تخصيص الاتهام ولا تعميمه، كما يفهم بعض المتسرعين من أهل ضيق العطن، لأن هذه الأشياء التي ذكر وغيرَها توجد في كل المدن والقرى والأقطار بتفاوت، ولكن الشاهد والمعنى هو العود على النفس باللوم، والرجوع إلى القاعدة القرآنية: ﴿وما أصابكم من مصيبة بما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير﴾، والقاعدة القرآنية الأخرى المكملة لمعناها: ﴿واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة﴾، فالمصيبة الواحدة يكون لها وجوه كثيرة، وتشمل ناسًا كثيرين مختلفين، وقال الله تعالى: ﴿ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون. ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون﴾، فانظر كيف أردف ذكر إهلاك القرى بذكر الدرجات، وأن الله ليس بغافل عن عملهم الصالح منه وغير الصالح، فكلٌّ له جزاؤه، وكلٌّ له درجته، وأخت هذه الآية في سورة هود: ﴿وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون﴾، ثم أردف هذا بذكر الاختلاف، فقال: ﴿ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم﴾.

وسلف في حديث الطاعون أنه يكون عذابًا ورحمة في آن واحد، وفي حديث الصحيحين أيضًا: "يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض، يُخسف بأولهم وآخرهم"، قالت [عائشة رضي الله عنها]: قلت: يا رسول الله، كيف يُخسف بأولهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم [أي الباعة]، ومن ليس منهم؟ قال: يُخسف بأولهم وآخرهم، ثم يُبعثون على نياتهم". وعلَّمنا الله تعالى في سورة الكهف في قصة موسى والعبد الصالح أن أقداره لها ظاهر وباطن، يخفى على الناس منها ما حُجب في بواطنها مما أراده الله من الخير فيها. وكل الناس يتلو ويذكر قوله تعالى: ﴿وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم﴾.

وهذا الفهم للأقدار، بترك الأمن من مكر الله ولوم النفس، هو الذي يفيده مجموع الآيات والأحاديث، ومنها في سياقها الآيات التي ذكرت تعذيب القرى أو إهلاكها، فعذاب الدنيا يكون للناس فرادى وجماعات، وقد أخبرنا الله تعالى أن كل قرية تُهلك أو تُعذَّب، فقال: ﴿وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابًا شديدًا﴾، فعلى كل أهل قرية إذن أن يجتهدوا ألا يكون ذلك في زمانهم، بتقوى الله وترك مبارزته بالمعاصي، وألا يأمنوا أن يأتيهم عذابه ليلًا أو نهارًا، من حيث يحتسبون أو لا يحتسبون، قال الله تعالى: ﴿أفأمن هل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتًا وهم نائمون. أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون. أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون﴾.

ومن ههنا يجب أن يتعظ أهل كل القرى في كل مكان ممن لم يصبهم ما أصاب غيرهم، وألا يظنوا أنهم في مأمن ومنجى، وأن يتوبوا إلى ربهم، فإنه لا يعلم جنوده إلا هو، ويأتي الناسَ عذابُه من حيث لم يحتسبوا، ويعذب بالماء والنار والريح والزلازل والأسقام والفتن مما نعلم ومما لا نعلم، وقد كان الناس في هذه المحنة يحذرون البحر فأتاهم السيل. وإن الله ذم الذين تكبروا على التضرع بعد العذاب، وانهمكوا في الغي في زمان الرحمة، فقال: ﴿ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجُّوا في طغيانهم يعمهون. ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون. حتى إذا فتحنا عليهم بابًا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون﴾، فالرحمة تقتضي الشكر، والعذاب يقتضي التضرع، وقد يَعقُب الرحمةَ العذابُ الخفيف، وقد يَعقُب العذابَ الخفيف العذابُ الشديد، وفي هذا المعنى آيات في سورة الأنعام وفي سورة الأعراف لا أطيل بذكرها.

والتوبة واجبة لمن ابتلاهم الله ولمن عافاهم أيضًا، وفي بلادنا مظالم ومناكر ظاهرة متفق عليها، تجب التوبة منها، بردِّ الحقوق إلى أهلها، كالقتل أو الحبس ظلمًا، وكاغتصاب البيوت، وإخراج الناس من ديارهم، وكأكل الربا وإباحته بالقانون بعد منعه وتجريمه، وكالخوض في المال العام بالباطل، فالاستمرار في ذلك ونحوه مجلبة لسخط الله وتعذيبه، وقد يشمل ذلك الفاعلين والـمُعِينين والراضين والساكتين بل يشمل الأبرياء المختلطين بالظالمين ثم يبعثون على نياتهم.

وإن إصلاح ما بيننا يبدأ بإصلاح ما بيننا وبين الله، فإن الألفة تكون بالطاعة، والشقاق يكون بالمعصية، وقد توعد الله أن يعذب بالتفرق وتسليط بعض الناس على بعض، قال: ﴿قل هو القادر على أن يبعث عليهم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يَلْبِسَكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون﴾، كما أخبرنا أنه سبحانه ألف بين أصحاب النبي ﷺ بإيمانهم وطاعاتهم، فقال: ﴿واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا﴾، وقال: ﴿هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألفت بن قلوبهم ولكن الله ألف بينهم﴾.

فإن أردنا الإصلاح بين الناس فلا يكون ذلك إلا بردّ المظالم، بل بوقف الظلم القائم، بإطلاق المأسورين، ورد الأموال والدور المغصوبة، ورجوع المخرَجين من ديارهم إلى ديارهم، وقد سمعنا عن أناس من أهل درنة وغيرها من مدن الشرق وقراه لا يستطيعون الرجوع ليتفقدوا أهليهم ممن استشهدوا في الحادثة أو فُقدوا أو صاروا بلا مأوى أو بلا عائل، وهذا من أشد القسوة، ومن فظيع الجرم، ألَّا يُـمَكَّن المرء في هذا الحادث الأليم من أن يدفن ميته، أو يواسي قريبه، أو يداوي جريحه، أو يعود إلى داره. إن الجرح إذا ضُمِّد على فساد تفاقم وازداد علة، والكسر إذا جبر على غير استواء ازداد وهْنًا، وهاضته أقل وقعة أو صدمة.

ومن رحمة الله أن هذه الفاجعة قد ألَّفت بين الناس ورقَّقت قلوب بعضهم على بعض، وندَّمت الذين غزوا إخوانهم في الغرب، وسمعناهم نادمين باكين يتعهدون ألا يرفعوا سلاحًا على إخوانهم في حرب أو فتنة، وإن سعى فيها الساعون، وحرَّض عليها المحرِّضون، الذي لا يهنأون إلا بالتعادي والتحارب بين الناس حتى يهيِّجوا بعضًا على بعض، وينتفعوا بالغل والحقد في إيقاد الحروب ليكونوا رءوسًا في الفتنة، ويبلغوا ما طمحوا إليه من التصدر والرئاسة، ولا تزداد قلوبهم على الحوادث إلا قسوة، ولا تفيدهم الأيام إلا عزة بالإثم، وإلا إصرارًا على الجرم.

وقد أظهرت هذه المحنة في عامة الناس خلق المواساة والمروءة، أو ما يعبَّر عنه في الكلام الدارج عندنا: بـ "الفزعة"، وهو استعمال فصيح، فالفزع الخوف، وهو أيضًا إغاثة المستغيث، والخفة في نجدة المستنجد، فكأنه يفزع معه، ويصيبه ما يصيبه، وقد جاء في وصف الأنصار رضي الله عنهم: "إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع".

فالمحن تستخرج الأخلاق الرفيعة، والأخلاق الرديئة أيضًا، فسالت الطرق إلى شرق البلاد من غربها وشرقها وجنوبها بالفازعين إلى إخوانهم، خفُّوا لنجدتهم، وجادوا بما عندهم، وجمعوا ما ناءت به الشاحنات، وفاضت به المخازن، من غطاء وفراش ولباس وغذاء وماء ودواء، وما طلبوه وما لم يطلبوه، فكان مشهدًا لأهل هذا القطر يسر الناظر ويسعد الخاطر، يتذكرون به ما جمعهم في الزمن القريب سنة 2011 من التناصر والتآزر والتعاون، وكانوا كما أرادهم دينهم كالجسد الواحد، وكالبنيان المرصوص. والحق أنه لم يقع بين أهلنا ما يعكر صفوهم، إلا ما جناه قلة من الطامعين في الترؤس متبوعة، وإن كانوا ألوفًا، فإن الألوف في الملايين قلة، جيَّشوا الجيوش للغزو، وبنوا السجون لحبس الأحرار، وأخرجوا المخالفين من الديار، وغصبوا البيوت، وقتلوا الأبرياء، وأوقدوا الحروب، وأشعلوا الفتن، وحرَّضوا قبيلًا على قبيل، وفريقًا على فريق.

إن المحن تظهر معادن الناس كريمة أو لئيمة، فهذا يواسي ويعين بما يستطيع، ويشارك بنفسه أو ماله أو قوله أو فعله، وهذا ينتهز الفرصة لينتفع من المصيبة، فهو يتَّجر في الآلام، ويقامر بالمحن، ويهتبل ميلة الزمن على الناس، ليرضعها إلى آخر قطرة، وكذلك شأن المنافقين فيما أخبرنا القرآن، يركبون الفتنة، ويتخلفون عند الفزعة، ويخذِّلون في الحملة، حداد الألسنة، أشحة الأيدي، ﴿لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم﴾، ﴿قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا. أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير﴾.

إن محنة درنة والجبل يجب أن تعبُر بنا من العجز والتسليم للمفسدين ومتابعتهم في غيهم إلى محاسبتهم على جرائمهم وجرائرهم، فكيف يُفلت من تولَّى ولاية عامة بالحق أو بالباطل من أن يحاسَب على ما جناه فعلًا أو تركًا، فنراه يستمر في غيه وإجرامه؟ وحتام تسيل الدماء وتهدم المدن وتنفق الأموال ثم لا يكون إقالة ولا استقالة، فضلًا عن محاسبة أو محاكمة؟ وحتام تكون أرواح الناس ومصالحهم وأموالهم مهدَرة رخيصة لا يُسأل في شأنها من ضيَّعها وأساء في ولايته لها؟ هل هذا إلا الهوان، وإلا الجناية على النفس، وإلا استئمان الخائن، وتصديق الكاذب، وإقرار الظالم، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  7012