الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

تعليم البيان

الجاحظ

مقالة

تاريخ النشر: 2024/09/25
اقرأ للكاتب
... ثم خُذْهُ بتعريف حُجَج الكُتَّاب وتخلُّصِهم باللفظ السهل القريب المأخذ إلى المعنى الغامض، وأذقه حلاوة الاختصار، وراحة الكفاية، وحذِّره التكلُّفَ واستكراه العبارة، فإنَّ أكرمَ ذلك كلِّه ما كان إفهامًا للسامع، ولا يُحْوِج إلى التأويل والتعقُّب، ويكون مقصورًا على معناه لا مقصِّرًا عنه، ولا فاضلًا عليه.
فاختر من المعاني ما لم يكن مستورًا باللفظ المتعقِّد، مُغْرِقًا في الإكثار والتكلف، فما أكثر من لا يحفِل باستهلاك المعنى مع براعة اللفظ وغموضه على السامع بعد أن يتَّسق له القول، وما زال المعنى محجوبًا لم تَكشف عنه العبارة، فالمعنى بعدُ مقيمٌ على استخفائه، وصارت العبارة لغوًا وظرفًا خاليًا.
وشرُّ البلغاء من هيَّأ رسمَ اللفظ قبل أن يهيِّئ المعنى، عشقًا لذلك اللفظ، وشغفًا بذلك الاسم، حتى صار يجرُّ إليه المعنى جرًّا، ويُلزقه به إلزاقًا، حتى كأن الله تعالى لم يخلق لذلك المعنى اسمًا غيره، ومنعه الإفصاحَ عنه إلا به.
والآفة الكبرى أن يكون رديء الطبع بطيء اللفظ كليل الحدِّ شديد العُجب، ويكون مع ذلك حريصًا على أن يُعَدَّ في البلغاء، شديد الكَلَف بانتحال اسم الأدباء. فإذا كان كذلك خَفِيَ عليه فرق ما بين إجابة الألفاظ واستكراهه له.
وبالجملة إن لكل معنًى شريف أو وضيع، هزلٍ أو جِدٍّ، وحزم أو إضاعة، ضربًا من اللفظ هو حقه وحظه، ونصيبه الذي لا ينبغي أن يجاوزه أو يقصر دونه.
ومن قرأ كتب البلغاء، وتصفح دواوين الحكماء، ليستفيد المعاني، فهو على سبيل صواب. ومن نظر فيها ليستفيد الألفاظ فهو على سبيل الخطأ. والخسران ههنا في وزن الربح هناك، لأن من كانت غايته انتزاع الألفاظ حَمَلَه الحرصُ عليها والاستهتار بها إلى أن يستعملها قبل وقتها، ويضعها في غير مكانها. ولذلك قال بعض الشعراء لصاحبه: أنا أشعر منك! قال صاحبه: ولم ذاك؟ قال: لأني أقول البيت وأخاه، وأنت تقول البيت وابن عمه.
وإنما هي رياضة وسياسة، والرفيق مصلح، وآخر مفسد، ولا بد من هِدَانٍ وطبيعة مناسبة.
وسماع الألفاظ ضار ونافع، فالوجه النافع أن يدور في مسامعه، ويَغِبَّ في قلبه، ويختمر في صدره، فإذا طال مكثُها تناكحت ثم تلاقحت فكانت نتيجتُها أكرمَ نتيجة، وثمرتُها أطيبَ ثمرة، لأنها حينئذ تخرج غير مسترَقة ولا مختلَسة ولا مغتصَبة، ولا دالةً على فقر، إذ لم يكن القصدُ إلى شيء بعينه، والاعتماد عليه دون غيره.
وبين الشيء إذا عشَّش في الصدر ثم باض، ثم فرَّخ ثم نهض، وبين أن يكون الخاطر مختارًا، واللفظ اعتسافًا واغتصابًا، فرقٌ بيِّن.
ومتى اتكل صاحب البلاغة على الهوينى والوكال، وعلى السرقة والاحتيال، لم ينل طائلًا، وشق عليه النزوع، واستولى عليه الهوان، واستهلكه سوء العادة.
والوجه الضار: أن يتحفظ ألفاظًا بعينها من كتاب بعينه، أو من لفظ رجل، ثم يريد أن يُعِدَّ لتلك الألفاظ قسمها من المعاني، فهذا لا يكون إلا بخيلًا فقيرًا، وحائفًا سروقًا، ولا يكون إلا مستكرهًا لألفاظه، متكلفاً لمعانيه، مضطرب التأليف منقطع النظام، فإذا مر كلامه بنُقَّاد الألفاظ وجهابذة المعاني استخفوا عقله، وبهرجوا علمه.
ثم اعلم أن الاستكراه في كل شيء سمج، وحيثما وقع فهو مذموم، وهو في الطُّرَف أسمج، وفي البلاغة أقبح. وما أحسن حالَه ما دامت الألفاظ مسموعة من فمه، مسرودة في نفسه، ولم تكن مخلَّدة في كتبه. وخير الكتب ما إذا أعدت النظر فيه زادك في حسنه، وأوقفك على حده.

رسائل الجاحظ 3/39 رسالة المعلمين

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  2832